إخلاء «مجمع التحرير» محاولة محو ذاكرة المصريين
[wpcc-script type=”8163e816befab734fc1f1753-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: «مجمع التحرير اتبنى سنة 1951 قبل حكم الرئيس جمال عبد الناصر، يعني مش من إنجازاته».
«لو فِضل عمر أفندي قطاع عام، كان فِضل مجمع التحرير يخدم المواطنين في مصر».
«مجمع التحرير صرح غالي على نفوسنا، تم تشييده لخدمة جميع طبقات الشعب فى جميع أنحاء الوطن. البنايات الحديثة تشعرك بالطبقية وتدخلها متوجسا قلقا».
«إن المجمع هو قدس أقداس البيروقراطية في مصر، حيث يخضع المواطنون أمام كهنة البيروقراطية».
«من هنا شفت مصر كلها، وخصوصا ثورة 25 يناير اللي كانت ماشية زي الفل لغاية يوم الجمعة 28 يناير الساعة 4 العصر».
«مش كان الأحسن حولتوه لحديقة عامة تشيل التلوث من نص البلد وتنفس عن الناس؟ هو لازم بيع كل شبر في البلد لرجال الأعمال، حرام عليكم الناس ليها حق في البلد دي، اللي بيحصل ده مش استثمار، دي عقلية فساد وعمولات، حرام حرام حرام». (من آراء المصريين حول المجمع).
لا أحد من المصريين أو الأجانب يجهل البناء الضخم الذي يطل على ميدان التحرير ويحتويه، «مجمع التحرير» أحد أهم معالم القاهرة، والذي شهد العديد من الأحداث الفارقة في تاريخ المصريين، أهمها على الإطلاق أحداث ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير عام 2011. ويبدو أن الدولة تحاول جاهدة أن تنفذ قرارها الذي طال تأجيله، والمتمثل في إيقاف نشاط المجمع ــ أضخم مبنى إداري في الشرق الأوسط وافريقيا ــ بحجة التكدس المروري في وسط المدينة، لكن يبدو أن الدواعي الأمنية لإخلاء ميدان التحرير وجعله منطقة محرّمة يصعب التجوّل والتواجد فيها، هو الهدف الأجدى في ظل النظام القائم. الأمر الآخر هو محو الميدان وذكرياته الثورية من وعي المصريين، فإخفاء معلم من المعالم، وجعل الأمر مجرد حكايات وتصاوير نرتلها على الصغار، ستجعل منه أمراً مشكوكاً به من الأساس، خاصة في حال استنزاف الذاكرة، الذي تصر عليه الميديا التابعة لنظام السياسي على اختلاف أشكالها المتنوعة.
مزحة يوليو
لم نزل نكتشف الكثير من المهازل التي أورثتها عقولنا حركة أو انقلاب تموز/يوليو 1952. فالأغلبية تعتقد في أن هذا البناء يُنسب إلى الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، لكن الحقيقة أنه أنشئ قبل ذلك، فقد قرر الملك فاروق ملك مصر والسودان هدم الثكنات العسكرية الإنكليزية التي كانت تحتل ميدان الإسماعيلية ــ التحرير حالياً. وفي عام 1948 بدأ المعماري المصري محمد بك كمال إسماعيل (1908 ــ 2008) وكان وقتها مديراً لمصلحة المباني الأميرية، في بناء «مجمع الجلاء»، أو «مجمع الحكومة» ــ الذي أصبح «مجمع التحرير» بعد تموز/يوليو 1952 ــ ذلك بهدف توفير النفقات الباهظة التي كانت تتحملها الدولة المصرية جرّاء استئجار عدد كبير من العقارات لمصالحها الحكومية، وأيضا لتوفير جهد المواطن الذي كان يضطر إلى المرور على عدة مكاتب في عدة أماكن لإنجاز معاملاته وتخليص أوراقه ــ الأمر الذي يريده النظام الحاكم الآن ــ وقد أشرفت على البناء شركة مقاولات مصرية إيطالية تسمى إيجيكو، بميزانية تقدّر بنحو مليون ومئتي ألف جنيه وقتها. وكان الافتتاح الرسمي عام 1951. ويذكر أحد الكُتاب طبيعة العمل والموظفين داخل المجمع عند افتتاحه بهذه العبارات الدالة على مكانة المكان وموظفيه «أعتبر العمل في المجمع نوعاً من الوجاهة الاجتماعية، المنخرط فيه لابد أن يكون متأنقا، ذلك أنه ذاهب إلى مكان شديد الاحترام، وسيجلس إلى مكتب في غرفة مستقلة معه زميل أو زميلان على الأكثر، وإذا طلب قهوة فإن النادل سيقدم له المطلوب وهو يرتدي جاكت أبيض وبنطالاً أسود. عمال النظافة لا يتوقفون عن العمل، والسعاة يرتدون بزات صفراء، ودورات المياه شأنها شأن الممرات بالغة النظافة، مما يدفع المرء للتصرف بتحضر».
عشاق وإرهابيون
ورغم شهرة المجمع كأكبر مكان تتجمع فيه المصالح الحكومية في مصر، إلا أنه كان شاهداً على حوادث عدة، تدل على طبيعة الزمن أو المرحلة التي حدثت فيها. ففي عقد الستينيات شهد المجمع أكثر من حادث انتحار لعشاق على خلفية قصص حب لم تكتمل وهوى أصحابها، هنا يبدو مدى الحِس الرومانتيكي الذي كان يشغل نفس وروح أصحاب تلك الفترة، هذه الحوادث التي بدأت تشكل ظاهرة أكثر منها حالات فردية، فالعاشق المصدوم لا يجد سوى أكثر الأماكن ارتفاعاً، والتي يسهل الوصول إليها ليلقي بنفسه، ويسجل اسمه في سجل المضروبين بالحب. الأمر الذي جعل القائمين على المجمع يقومون بإحاطة السطح بشبكة من السلك والحديد، تحول دون هذه المحاولات. هذه الشبكة التي لم يعد لها وجود الآن.
هذا كان حال الستينيات، أما في السبعينيات فالأمر اختلف، هجر المهجورون المجمع، وأصبح أرضاً للتفجيرات، فقد انفجرت قنبلة في أحد المكاتب التابعة لمديرية الشباب والرياضة، في الدور الخامس، وقيل وقتها إن العملية الإرهابية قام بها أحد الليبيين، على خلفية الموقف الليبي من سياسات السادات الخاصة بمعاهدة كامب ديفيد، وإرساء اتفاقية السلام مع إسرائيل. هكذا قيل.
ثوار ومجرمون
تعد المفارقة سمة أساسية من سمات الحياة في مصر، وبالتالي تبدو فكرة القضاء على أي محاولة لتصحيح أوضاع هذه الحياة محكومة بالمفارقات، بداية من تداخل المعايير والرؤى، وصولاً إلى إصدار الأحكام الغوغائية في أغلبها. فلا يوجد سوى منطق العبث الذي يحكم كل شيء. هذا ما ينطبق على أحداث ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير، والذي كان «مجمع التحرير» شاهداً على أغلب أحداثها وأكثرها درامية. فالطابق الأرضي على سبيل المثال أصبح يمثل المستشفى الميداني في أيام الثورة الأولى، لكن بعد (موقعة الجمل) الشهيرة أصبح يمثل ما يشبه السجن للخارجين على النظام. ووفقاً للمصطلح الأشهر «هكذا قيل» فالمقبوض عليهم أصبحوا بلطجية ومن بائعي مخدرات، ومهددي الأمن والسلم العام. أصبح هذا الدور مكاناً لتصفية الحسابات، مَن ضد مَن، أو مع مَن، لا يهم. ورغم قيام مجهولين بحرق بعض أماكن في المجمع، وسرقة عدة أجهزة كمبيوتر وما شابه، إلا أنه لم يتم التوصل إلى هوية هؤلاء، وعلينا ألا ننسى أنهم مجهولون. ولكن ضمن منظومة عدم النسيان، علينا ألا ننسى أن بعد أحداث محمد محمود أصبحت الساحة الخارجية للمجمع وما يحيطه، وفي ظل دبابات الجيش ومدرعاته، تحوّل المكان بأكمله ساحة لأصحاب السوابق، وقد اختفت وجوه الثوار، لتحتل الوجوه المشوّهة والمرعبة المكان، الذي أصبح مجرّد الاقتراب منه مخاطرة معروفة عواقبها سلفاً، هكذا استتب لهؤلاء (المجهولون) الأمر.
تفاصيل المبنى وما يشغله
يقع المبنى على مساحة 28 ألف متر مربع، ويصل ارتفاعه إلى حوالي 55 مترا. ويتكون من 14 طابقا، وفيه 1356 حجرة للموظفين، و10 مصاعد، ويعمل فيه حوالي 10 آلاف موظف، بينما يتردد عليه حوالي 20 ألف شخص يومياً بإجمالى 30 ألف شخص، وللمبنى مدخلان رئيسيان في الواجهة، وآخران جانبيان، بالاضافة لمخرج للطوارئ.
يترأس المجمع الآن نائب محافظ القاهرة، وتشغل المحافظة 400 حجرة، موزعة بين مديريات الشباب والصحة والقوى العامة والطرق والكباري وبعض الإدارات التعليمية، ثم وزارة الداخلية التي تشغل 390 حجرة، من حيث إداراتها داخل المجمع، والموزعة بين إدارات الجوازات والآداب والأموال العامة. بينما تشغل وزارة العدل ممثلة في هيئة قضايا الدولة 299 حجرة، وتشغل وزارة التضامن الاجتماعي 119 حجرة، في حين تشغل وزارة التعليم العالي 17 حجرة.
محاولة إخلاء المبنى
تعود فكرة إخلاء المجمع إلى عام 2000 حيث أصدر عاطف عبيد رئيس الوزراء وقتها قراراً بإخلاء المجمع من الموظفين، ذلك بهدف تفريغ العاصمة من المصالح الحكومية لتقليل الضغط على منطقة وسط القاهرة. إلا أن الأمر لاقى الكثير من الاعتراضات، خاصة من موظفي إحدى المصالح داخل المجمع، الذي قرر بعضهم رفع دعوى في محكمة القضاء الإداري لوقف قرار رئيس الوزراء، فتم تأجيل القرار، إلا أن الفكرة ــ الأمنية في الأساس ــ ظلت تراود الحكومات المتعاقبة، حتى بدأت محافظة القاهرة في التنفيذ الفعلي في منتصف كانون الثاني/يناير 2016 حيث أعلنت محافظة القاهرة عن خطة تبدأ في 30 حزيران/يونيو من العام نفسه لنقل بعض إدارات المجمع تمهيداً لتفريغه بالكامل بحلول 30 حزيران/يونيو عام 2017 كشكل من أشكال الاحتفال بالذكرى المُباركة.
معارضون ومباركون
رغم معارضة الكثير من المواطنين، الذين يتعاملون مع مصالح وإدارات المجمع، رغم صعوبة التعاملات ــ كأي مكان خدمي في مصر ــ إلا أن تشتيت هذه المرافق، وفي أماكن متباعدة عن بعضها، سوف يزيد من صعوبة هذه الإجراءات، فهناك مَن يأتون من جميع محافظات مصر لإنجاز معاملاتهم الإدارية في مجمع التحرير. الأمر الآخر يخص العاملين في المجمع، حيث تتوافر وسائل المواصلات القريبة من المكان، أهمها مترو الأنفاق، وبالتالي فنقل إداراتهم التي يعملون فيها إلى أماكن أخرى ــ أغلبها بعيدة ــ ومع مرتباتهم المحدودة كموظفي دولة، فالأمر يقترب من حالة التعذيب اليومي، حتى أن أكثرهم ينتظر النقل الفعلي للمكان، وسيترك وظيفته، ويصبح ضمن رواد المعاش المبكر، وهو ما حدث للعديد من الموظفين الذين انتقلت إداراتهم بالفعل إلى أماكن أخرى. كذلك فتعامل بعض الموظفين يختص ببعض الجهات القريبة من ميدان التحرير وما يحيطه من أماكن، فيعيش بين جحيم الوصول إلى عمله، وجحيم تأديته. أما الفئة المباركة لما يحدث، والتي ترى في أي أمر حكومي قدراً كبيراً من وجوب التقديس، فتعتقد في المصلحة العامة، والتي لابد وأن تسود وتفوق أي فكر أو مصلحة فردية أنانية، إنها مصلحة البلد في الأول والأخير.
مشروع سياحي حتى إشعار آخر
كان من المفترض أن تنتهي عملية الإخلاء في نهاية شهر حزيران/يونيو الفائت، إلا أن الأمر لم يكن بهذه السهولة، حيث لم يتم إخلاء سوى ما يقرب من 320 غرفة حتى الآن، وأغلبها يتبع وزارة التضامن الاجتماعي، وبعض المكاتب الأخرى الخاصة بإدارات مباحث الآداب العامة، ومكاتب الجوازات والهجرة التابعة لوزارة الداخلية. كما كان من المفترض أن تنتقل العديد من الإدارات إلى العاصمة الإدارية الجديدة، والتي في دورها لم تزل في علم الغيب.
ومنذ أولى الخطوات في نقل بعض الإدارات تناثرت الشائعات ــ يبدو الأمر في البداية عبارة عن شائعات، وهي طريقة معهودة لجس نبض الرأي العام ــ بأن المجمع سيتحول إلى فندق كبير، ذلك بعد إعادة تأهيله من الداخل ليتماشى وهذا الغرض. وستحصل شركة إماراتية على حق الانتفاع بالمبنى. وما بين مؤيد ومعارض، أو مؤكد للفكرة ونافياً لها تدور الأقاويل، بداية من رئيس حي القاهرة، الذي نفى ما توارد من تحويل المجمع إلى فندق سياحي يليق بالعاصمة والنهضة الاقتصادية التي تشهدها البلاد، مؤكدا أنه حتى الآن لم يصدر قرار بشأن تحويله إلى مشروع آخر. وصولاً إلى نائب محافظ القاهرة للمنطقتين الغربية والشمالية، الذي أكد أنه لن يتم هدم مبنى مجمع التحرير بعد الإخلاء، لأنه مبنى أثري من طراز معماري متميز، ومن معالم القاهرة. ولكن سيتم طرح مسابقة للشركات الهندسية لتجديده والحفاظ على شكله الجمالي، وجارية دراسة إعادة توظيفه في مشروع جديد لم يتحدد بعد. وحتى الآن يبدو أن إخلاء المبنى بالكامل لم يكن بالسهولة التي تم تصورها من قِبل المسؤولين ومنفذي الفكرة، فمن الممكن في ظل الخطة الدؤوبة أن يتم التخلص من المجمع وما كان يمثله في الاحتفال بذكرى 30 حزيران/يونيو العام المقبل وبذلك يكون قد ظل المبنى 67 عاماً بالتمام والكمال هي سنوات عُمره، وهو رقم يعلم الجميع ما له من ذكرى سيئة في النفوس.
أقيم في عهد الملك فاروق فأصبح من إنجازات يوليو 1952
محمد عبد الرحيم