احتفالا بمئوية سيد عبد الرسول وجمال السجيني: التشكيل المصري والقضايا الكبرى

القاهرة ـ «القدس العربي»: يصادف هذا العام مرور الذكرى المئوية لميلاد الفنانين التشكيليين المصريين سيد عبد الرسول (1917 ــ 1995) وجمال السجيني (1917 ــ 1977). وفي هذه المناسبة أقيم معرض استعادي لأهم أعمالهما ــ أقيم معرض عبد الرسول في قاعة أفق، في متحف محمود خليل، بينما السجيني توزعت أعماله بين قاعة الزمالك للفنون ومتحف محمود مختار ــ فكانت الفرصة لاستعراض الرؤية الفكرية والجمالية لكليهما، خاصة وأنهما عاصرا فترة من أخصب فترات التاريخ السياسي والاجتماعي المصري، وعبّر كل منهما عن تصاعد الوعي الاجتماعي، أو بمعنى أدق تجسيده من خلال أعمالهما، فما بين الحلم بثورة، ثم الدخول في نفق القومية، مروراً بهزيمة يونيو 1967 وحرب أكتوبر 1973 وكلها أحداث لا نستطيع الفكاك منها كتجربة طويلة من تجارب الشعب المصري. كيف تمت صياغة هذه التجربة من خلال وعي الفنان التشكيلي، خاصة أن كلا من عبد الرسول والسجيني حققا من المكانة الفنية ما لم يتوافر إلا لقِلة في تاريخ الفن التشكيلي المصري، رغم الشهرة الأكبر للسجيني والعمق الأكبر لعبد الرسول. أتاح المعرض الاستعادي الفرصة لرؤية هذه الأعمال الآن، التي رغم جمالياتها وحرفية أصحابها والإعجاب بها حد الاندهاش بعض الأحيان، لنا أن نتساءل، ما الذي سيبقى ولم؟

احتفالا بمئوية سيد عبد الرسول وجمال السجيني: التشكيل المصري والقضايا الكبرى

[wpcc-script type=”b6cf96496cfbc40867f8e6ed-text/javascript”]

القاهرة ـ «القدس العربي»: يصادف هذا العام مرور الذكرى المئوية لميلاد الفنانين التشكيليين المصريين سيد عبد الرسول (1917 ــ 1995) وجمال السجيني (1917 ــ 1977). وفي هذه المناسبة أقيم معرض استعادي لأهم أعمالهما ــ أقيم معرض عبد الرسول في قاعة أفق، في متحف محمود خليل، بينما السجيني توزعت أعماله بين قاعة الزمالك للفنون ومتحف محمود مختار ــ فكانت الفرصة لاستعراض الرؤية الفكرية والجمالية لكليهما، خاصة وأنهما عاصرا فترة من أخصب فترات التاريخ السياسي والاجتماعي المصري، وعبّر كل منهما عن تصاعد الوعي الاجتماعي، أو بمعنى أدق تجسيده من خلال أعمالهما، فما بين الحلم بثورة، ثم الدخول في نفق القومية، مروراً بهزيمة يونيو 1967 وحرب أكتوبر 1973 وكلها أحداث لا نستطيع الفكاك منها كتجربة طويلة من تجارب الشعب المصري. كيف تمت صياغة هذه التجربة من خلال وعي الفنان التشكيلي، خاصة أن كلا من عبد الرسول والسجيني حققا من المكانة الفنية ما لم يتوافر إلا لقِلة في تاريخ الفن التشكيلي المصري، رغم الشهرة الأكبر للسجيني والعمق الأكبر لعبد الرسول. أتاح المعرض الاستعادي الفرصة لرؤية هذه الأعمال الآن، التي رغم جمالياتها وحرفية أصحابها والإعجاب بها حد الاندهاش بعض الأحيان، لنا أن نتساءل، ما الذي سيبقى ولم؟

الحِس الحضاري والحرفة

عبد الرسول والسجيني انطلقا من الفن المصري القديم، فهناك إرث حضاري ممتد لم يغفلاه، وحاولا استعادة ملامحه من خلال أعمالهما، خاصة أن كل منهما مارس العمل من خلال خامات متباينة، كالنحت والتصوير والخزف، زاد السجيني العمل من خلال النحت البارز وطَرق النحاس. من ناحية أخرى ظهرت الخبرة الفنية والجمالية في كيفية التعامل مع هذه المواد وتطويعها لإنتاج أعمال تحمل أفكار أصحابها، ليست تهويماً في فراغ، بل مجسدات لحيوات متخيلة أحياناً، ومأمولة في حين آخر. كذلك وهو الأهم، محاولة تحقيق التواصل بين المناخ والحِس الحضاري المصري القديم ــ ما نجح فيه تماماً وحققه محمود مختار ــ وبين العصر الذي يعيشانه، بكل ما يحمل من سمات وأفكار وأحلام. عند هذه النقاط يلتقي كل من سيد عبد الرسول وجمال السجيني، إلا أن الأمر يختلف تماماً وتتباين المسافات الشاسعة بينهما في الرؤية والخلق الفني.

من الشعبي إلى المقدس

ارتبط السجيني بالأعمال التي تجسد وتمجد فترات وأحداث سنطلق عليها مجازاً (فترات النضال) مجسدات تبدو عليها القوة والرصانة، إضافة إلى محاولة جعلها تعبيراً عن الوعي والأمل الجمعي للشعب المصري، كان نهضة مصر لمحمود مختار في وعي السجيني، ولكن مختار كان من زمن سعد زغلول، والفلاحة وأبو الهول أصبحا عند السجيني جنوداً وخوذات ورصاصات موجهة للأعداء. ومن ناحية أخرى جاء الزعيم وتعلق الجميع به، وتحول الشخص إلى رمز، والرمز إلى مقدس ــ كان للاستعراض الحرفي مكانه في هذه الأعمال ــ من هنا جاءت أغلب أعمال السجيني في حالة من المباشرة والحِس القومي المتفشي وقتها، أن يصبح الجميع أصحاب ملامح واحدة وصوت واحد وفكر وحيد. كذلك اتجه السجيني لعمل منحوتات لمشاهير ذلك العصر، كأم كلثوم، ونجيب محفوظ وعبد الحليم حافظ، وبيكار ومحمود مختار، تحية وإجلالاً للأخير. ورغم حالة الدهشة التي تثيرها أعمال السجيني، خاصة الأعمال الكبيرة، والتي استمدت قيمتها الفكرية ــ الجماليات متحققة لا من شك ــ من طبيعة الأحداث، وبما أنها تتحدث عن أحداث صاخبة، فقد نالت حظها من الشهرة، خاصة وأن التعبير بهذا الشكل وقتها سيجد مَن يحتفي به، ويجعل من الفنان حاملاً لهموم وأحلام وطنه، هذه الأحلام والهموم التي تختلف من وقت لآخر، وتظهر وتخبو أهميتها مع الزمن. إذاً سيبقى الحِس الجمالي، فما كان يبدو شعبياً ــ الحلم الثوري ــ حوله السجيني إلى مقدس، وبانهيار هذا المقدس بفعل الزمن أو الوعي أو اكتشاف زيف ما كان، يبقى المعنى الفكري لهذه الأعمال، والذي سيصبح على أقل تقدير تحت رحمة التوثيق لا أكثر ولا أقل.

من المقدس إلى الشعبي

وعلى النقيض تتواتر أعمال سيد عبد الرسول، لتهبط الآلهة الفرعونية من جدارياتها، وتصبح فلاحات وحاملات جرار، واحتفالات عُرس، والطواف حول مقام أحد الأولياء، وشباك صيادين لا تكاد تلامس الماء إلا بعد التمتمة بـ «بسم الله الرحمن الرحيم». فتيات صغيرات، ورجال يتكاتفون، بائعات يحتمين من الشمس بمعجزة، ورجل فوق حصانه شاهراً سيفه في مهابه، أشبه بأبطال السير الشعبية التي يتم تداولها فوق أبخرة الشاي وقت الراحة، وديكة تصيح إيذاناً بمجيء الفجر، ولم يزل المؤذن غارقاً في النوم. لك أن تتخيل الكثير من الحكايات التي لا تحصى وراء شخصيات عبد الرسول، حيوات لم ولن تنتهي لملامح غادرت المعابد وأصبحت تسير بين الحقول، أو تغسل صاحباتها الملابس على شاطئ النهر، أو تلعب الصغيرات الحجلة، وتغزل الشابات الصوف.
يبدو تأثر عبد الرسول أيضاً بأيقونات الفن القبطي، سواء في لقطات البورتريه، القديس الذي أصبح فلاحاً، وصاحبة المعجزات التي تحولت إلى امرأة تسعى للرزق، فما كان مقدساً أصبح أمرأة ورجلاً وطفلة ينتجون الحياة.
هذا هو النضال الذي لن ينتهي للإنسان المصري، محاولة العيش وإنتاج صيغة مقبولة للحياة رغم صعوبتها، هنا لن تصبح هذه الأعمال الفنية مجرد توثيق يدعو للاندهاش اللحظي، والترحم على زمن مختلف عليه، بل تحيات وتهليلات طفولية، تشبه تماماً رسومات الرجل، الخطوط البسيطة، وحركات الجسد الاحتفالية، والخطوات الواثقة، والملامح الموسومة بالحِس المصري، الذي قد تطالعه مصادفة الآن لو حالفك الحظ. هذا الأسلوب الطفولي، ما بين الرقة واليقين في حقيقة ما يجسده، بأنها مخلوقات باقية وستبقى، ويظهر صراعها مع البيئة وظروفها الاقتصادية والاجتماعية، ليبدو البُعد السياسي على استحياء، في خفوت يداري عاره أكثر من قدرته على التباهي، لم يجسد عبد الرسول زعيماً، ولم يخط معارك تعود أسبابها إلى منصة حطاب بصوت جهوري، المعارك هنا دائمة لا تخبو، بطلها الإنسان المصري، يعمل ويضحك وينسى شقاء اليوم عند رؤية ابتسامة طفل. كذلك تبدو المرأة المصرية وهي تتصدر أغلب الأعمال تصويراً وتجسيداً، فهي أساس الوجود على ضفة النهر، هي الباقية والمتأملة لحالها والمؤمنة بالمستقبل. لم يغفل عبد الرسول حالة التناغم، سواء في الريف أو البيئة الساحلية، ما بين الإنسان والبحر والحيوانات، قطط وماعز وثيران، والحصان الذي يصبح رمزاً للبطولات الشعبية المتأصلة في الوعي المصري، فالإيمان بالإنسان وتاريخه هو السر في هذا البقاء حتى الآن، مهما مرّ هذا الشعب بحلم أُجهض، أو هزيمة نجح في تجاوزها، وصولاً إلى ثورة أخيرة ــ لم يُعاصرها عبد الرسول ــ تم اختطافها. لكن أعمال الرجل توحي وتؤكد حالة اليقين في الوجود والحياة، هنا ينتهي وهم الوجود التاريخي ــ المزيف في الغالب ــ ويتحقق الخلود الشعبي، دون إدعاء صاخب، أو التهليل في مسيرة موكب رسمي، وليصبح الطواف جديراً بمقام شخص مجهول، صار برحمة الشعب أحد الأولياء الصالحين.

احتفالا بمئوية سيد عبد الرسول وجمال السجيني: التشكيل المصري والقضايا الكبرى

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *