استحضار الأرواح في أعمال الفلسطيني محمد الوهيبي

من حق الجميع أن يغبطوا الفنانين، لا بل أن يحسدوهم أيضاً، فهم الأشبه بالآلهة، يخلقون ما يشاءون ويصنعونَ عالماً خاصاً لا يعني سواهم، يخوضون حروبا ضروسا بسيوف خشبيّة والمفارقة هنا أنهم ينتصرون دائماً، ليس هذا وحسب فمنهم من كُشف عنه الغطاء كالفنان الفلسطيني محمد الوهيبي (مواليد فلسطين- طبريا عام 1948، خريج كلية الفنون الجميلة بدمشق قسم الحفر 1984)، الذي اتجه نحو اللامرئي وراح يراه ويعيشه ويكتبه أحياناً:

استحضار الأرواح في أعمال الفلسطيني محمد الوهيبي

[wpcc-script type=”94857dc6b31b2a7f73f164aa-text/javascript”]

من حق الجميع أن يغبطوا الفنانين، لا بل أن يحسدوهم أيضاً، فهم الأشبه بالآلهة، يخلقون ما يشاءون ويصنعونَ عالماً خاصاً لا يعني سواهم، يخوضون حروبا ضروسا بسيوف خشبيّة والمفارقة هنا أنهم ينتصرون دائماً، ليس هذا وحسب فمنهم من كُشف عنه الغطاء كالفنان الفلسطيني محمد الوهيبي (مواليد فلسطين- طبريا عام 1948، خريج كلية الفنون الجميلة بدمشق قسم الحفر 1984)، الذي اتجه نحو اللامرئي وراح يراه ويعيشه ويكتبه أحياناً:
نحو اللامرئي
ﻻ تدلُّ الَّسّاعة على إعجاب الكفيف بها
بل دﻻلتها دقة الوقت
انتصارٌ للبصيرة…
ويرسمه في محاولةٍ لمنحنا عينيه للحظات. يعرض أعماله أمامنا لنقف كأطفالٍ مندهشين نتأتئ بأغنيات خياليّة، فنحن أمام عيدٍ حقيقي، عيدٍ من دون ألوان، وطبعاً لا يصح هذا إلا عند الوهيبي الذي قال عن نفسه: «لا أدعي أنّي ملوِّن، بل أنا متقشفٌ بالألوان». وعلى كلّ حال فإن اختيار الفنان للألوان يرجع إلى مزاجه وثقافته البصريّة، والصّورة التي يريد أن يعكسها ويوصل فكرته من خلالها، بالإضافة إلى الحالة النفسيّة والنَّوازع الدَّفينة في شخصيته، لذا لجأ الوهيبي إلى الألوان الدَّافئة التي تعكس بحثه عن بيت أو مدينة أو وطن استولى عليه المحتل. نجد ألوانه من درجات البني، وكأنها أرضه في داخله تنوح وتبكي وتُسقط التراب دموعاً على صدور لوحاته العارية، فهو يستمد ألوانه من أيقونات الكون، الشّمس، القمر، اللّيل.
لذلك لا يحفل بالمهرجانات اللونيّة ولا يدعوها لأن تعقد بين يديه، فألوانٌ قليلة تستطيع أن تعبِّر عن فكرته وله في ذلك فلسفته الخاصة، ولأن اشتغاله بتقنيات الحفر أيضاً يعتمد على اللّون الواحد ومشتقاته، وأحياناً يكون حوارا ما بين الأبيض والأسود فقط، لذا نجد بعض لوحاته تتعكز على لون واحد. لكنه ليس وحيدا أبدا فهو مُرفق بتدرجات لونيّة واسعة تشحن العمل بطاقة غريبة تدفعنا للبحث عن تفاصيل في الحكاية، فأعمال الوهيبي ليست أقلّ من حكاية أو أسطورة تربطنا بالجغرافيا والتاريخ ببساطة، وكأنها ضرب من السحر، فالفن مرتبط بالسحر كما في قول كيث هارينغ: «لا يزال فن الرّسم كما كان عليه في حقب ما قبل التاريخ، فهو يوحد الإنسان بالعالم من حوله، إنه فن شديد الارتباط بعوامل السحر».
يستحضر الفنان الوهيبي أماكنَ بعيدة آتية من أقصى مساحات خياله، ويستحضر معها الكثير من الأرواح، يملؤها بتفاصيل تُكسبها هوية وانتماء: تفاصيل من التراث، الفلكلور، الأساطير، الحضارات القديمة والمدن المندثرة. عن هذه الأماكن يقول: «إنها أماكن مُفتَرَضة، لكنّني أُحسها واقعية.. أليفة.. مُقنعة، وأشعر بمتعة لا توصف وأنا أرسم الملامح غير المحدَّدة لتلك الأماكن والناس، وأُشكل التضاريس من جبال وصخور وسهول فوق واقعية، وأبسط فوقها سماء ذات لون مختلف، وأنثر على صفحتها غيوما بطريقتي، إنها أماكني الخاصة، إنها جزء من هذاياناتي الممتعة».
لا تغيب عن اللّوحات تفاصيل الزيّ الشعبي للمرأة الفلسطينيّة، رمز الوجود ودلالة عن حالة التراجيديا التي يعيشها الوهيبي، فهو لا يقصد بحضور المرأة في لوحاته امرأة مسماة، إنما هو بحث عن القيمة الجمالية والتعبيرية من خلال المرأة. فالتّراجيديا تكون أفضل وأجمل بحضورها، بالإضافة إلى الزخارف والأيقونات التي تظهر على بعض الأدوات والعمارات الشرقية المحمّلة بطاقات روحيّة هائلة، حتى ولو كانت ببساطتها لا تتجاوز كونها بيتا طينيا لا أكثر.
عوالم سريالية بامتياز تصور الزمان الغابر بتفاصيله، تحمل النزوح مع خيامه وأهله في مساماتها، تصّور البشر كأنهم في حضرة الله يوم الحساب، مكتظين يملأون الزخارف والأبنية، يملأون اللوحة وتفاصيلها حتى يفيضوا منها ليملأوا المكان، أرواحٌ كثيرٌ تخفق داخل الحكاية… أولئك الكثيرون اختُصروا فيما بعد في الأعمال الجديدة برجال عدة، يكشفون آفاق مستقبليّة هذه المرة بعد أن كان الماضي شغف الوهيبي.
هذه العوالم المربِكة لا تسكن أقمشة اللوحات وأجساد المنحوتات فقط، فبعد أن استطاعت تلك حمل كل هذه الأفكار الثقيلة الخارجة من أنا الفنان، المنسوجة من خيوط الحنين للماضي وللمدينة الضائعة -طبريا – ومن قلق على المستقبل وخوف من الخفي مع محاولات لكشفه وفضحه، ظهرت الحصى لتهبه نفسها فيحولها من مجرد حصى إلى قطعة فنية محمّلة بالرّموز والدلالات، باعتبار أن سطح الحصى لا يحتمل صوراً واقعية، بالإضافة إلى العديد من المصطلحات المعرفية المختزلة قدر الإمكان لإظهار قيمة الرمز على السطح، فـ»ثيمات» الوهيبي تحتاج إلى من يُبحر بفهمها ويفكّ ألغازها.
أقول أنا إنها «مجرد حصى»، لكنها ليست كذلك عند الوهيبي. كيف لا وهو المسكون بأرضه ووطنه، فالحصى عنده وطن صغير أو جزء من أرض، فهي تحمل دلالات تعبيريّة رمزيّة نابعة من معرفة الحصاة على حدّ قوله.
أعمال الوهيبي تتأرجح ما بين الخطوط القاسية الواضحة التي تظهر وكأنها تغلّف الأشكال وتحبسها ضمن العمل وما بين المساحات اللونيّة المتماهيّة مع بعضها، فالتكنيك البسيط هو ما يفضله الوهيبي الذي لا يجد حرجا في تداخل فروع الفنون مع بعضها(نحت، حفر، تصوير…)، لذا فبالتأكيد لن يقف عند اختلاف الأسلوب بين فترة وأخرى. فالمهم أن تحمل الأعمال على ظهرها الآراء الفلسفيّة الماورائية، والماضي بغباره ودموعه، والمستقبل بأسئلته، بحثاً عن رؤية جديدة تعطي دلالات لا منتهية، لا تغيب إلا مع أفول شمس السؤال لتشرق من سؤال آخر في أفق بعيد.

بسمة شيخو

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *