اقتراح لفصم الذّات وإعادة تعريف الماهيّة في الحداثة الشِّعريّة الجديدة

أولاً: فَصْمُ (الذّات ـ الدّازِن):

اقتراح لفصم الذّات وإعادة تعريف الماهيّة في الحداثة الشِّعريّة الجديدة

[wpcc-script type=”15ba91cf416e80578af9205f-text/javascript”]

أولاً: فَصْمُ (الذّات ـ الدّازِن):
إنَّ التَّمييز الإجرائيّ بينَ الوجود ـ في ـ العالَم الوقائعيّ، والوجود ـ في ـ عالَم القصيدة، يقود بالضَّرورة إلى تمييزٍ حاسِم ـ أُشيرُ إليه بوصفِهِ تمييزاً نظَريّاً فحسب – يفصمُ (الذّات ـ الدّازِن( في عمليّة خَلْق الشِّعر إلى الذّات الشّاعرة الموجودة في العالَم الوقائعيّ، والذّات الشِّعريّة الافتراضيّة الموجودة في عالَم القصيدة.
ومعنى هذا أنّنا أصبحنا أمامَ تأويلٍ جديد لِعمليّة الخَلْق الإبداعيّ للشِّعر يرى أنَّها عمليّة تخارُجيّة جدَليّة مُتراكبة بين ذاتيْن: ذلكَ أنَّ الجدَل يقومُ بين قصديّة وجود الذّات الشّاعرة ـ في ـ العالَم الوقائعيّ، وقصديّة وجود الذّات الشِّعريّة الافتراضيّة ـ في ـ عالَم القصيدة. وهيَ آليّة تتمُّ تبعاً لـِ (مُحايَثة وجوديّة تخارُجيّة( تُغني الذّات ولا تُفقِرُها أوَّلاً، وتُساعِدُنا ثانياً في مُحاوَلة فهم تلكَ المنطقة الإبداعيّة الكثيفة والغامضة في عمليّة الخَلْق وتفسيرها، وتمنَحُنا ثالثاً فرصةً نادرة لِمُعايَشة قوى الانكشاف الإبداعيّ بوصفها قوى تتحرَّكُ في مسافة توتُّر تُوَلِّدُ العالَمَ الشِّعريَّ الجديد، وتفتَحُ القصيدةَ ـ نحوَ ـ المجهول.
ولعلَّ هذا التّأويل يُعدِّل جذريّاً عناصر العمليّة الإبداعيّة التَّقليديّة للشِّعر، فينقُلنا من ثلاثيّة) العالَم ـ الشّاعر ـ العمل اللَغويّ الشِّعريّ(، إلى رُباعيّة (الذّات الشّاعرة ـ الوجود اللُّغويّ في العالَم الوقائعيّ ـ الذّات الشِّعريّة ـ الوجود اللُّغويّ في عالَم القصيدة(. وهو تعديل ينطوي في جوهره على السَّعي إلى مُجاوَزة تحكُّم الذّات الميتافيزيقيّة بالعمل الشِّعريّ، بما هو فعلُ طغيانٍ يفرضُ على هذا العَمَل مُسَبَّقات الذّات المركزيّة؛ إذ يأتي الجدَل التَّخارُجيّ المُتراكِب هُنا لِيُطيح بسيادة المُطابَقة، ويفتَحَ العالَم الشِّعريّ على مُمكناتِهِ الثَّرّة، ناقلاً مفهومَ الاستعارة من مُطابَقات علاقات المُشابَهة الذِّهنيّة بوصفها تصوُّرات مُنعزلة مُتعالية، إلى فَهْمٍ عمليٍّ مُغايِر ينظُرُ إليها بوصفها آليّة تفاعُليّة تقوم على مجالات تامّة من التَّجرِبة والفعل والتّأثُّر والتّأثير، وذلكَ بهدف خَلْق دلالات جديدة في عالَم القصيدة؛ أي بالانطلاق من تفاعُل الإنسان المُستمرّ مع مُحيطه الخارجّي، ونشاطه المُرَكَّب والمُتعدِّد ضمنَ هذا المحيط ، وما ينطوي عليه ذلكَ من تجارب ومُبادَرات وأفعال ورُدود أفعال تُجَذِّرُ الاستعارةَ في أساليب الوجود المُنبسِطة جدَليّاً بينَ العالَم الوقائعيّ والعالَم الشِّعريّ.
إنَّ الماهيّة بوصفِها كامنة في وجود الإنسان ذاته، ولا تتعيَّنُ إلا بعدَ انبساط أساليب وجوده، تتعرَّضُ في عمليّة فَصم (الذّات ـ الدّازِن( إلى تحوُّل جوهريّ، فالقصيدةُ تغدو ماهيّةً ـ فقط ـ لأساليب وجود الذّات الشّاعرة ـ في ـ العالَم الوقائعيّ، لكنَّ هذه القصيدة ليست سوى عالَم بسط أساليب وجود الذّات الشِّعريّة الافتراضيّة بما هيَ أساليب وجود تخارُجيّة مفتوحة – نحوَ ـ المجهول، ولم تتعيَّن ماهيَّتُها بعد!
وينقُلُنا هذا الفهمُ الجديد من حالة القصيدة (النِّهاية( بوصفها كانت ماهيّةً فحسب، إلى حالة القصيدة) البداية الدّائمة( بوصفها أساليب وجود الذّات الشِّعريّة المُتَّجهة دائماً ـ نحوَ ـ المُجاوَزة والمُستقبَل والاختلاف، وهو الأمر الذي ينقلُ نظَريّةَ الشِّعر من الحداثة المركزيّة ذات الرُّؤى المُقيَّدة والكُشوف الوهميّة، إلى الحداثة الحُرَّة الجديدة ذات الرُّؤى المفتوحة والكشوف غير النِّهائيّة.
إنَّ الحداثة الحُرّة الجديدة تُعزِّزُ سمةَ استقلاليّة النَّصّ النِّسبيّة عن مُؤلِّفه، وعن عالَمه الخارجيّ، وتسعى بذكاء وحنكة إلى مُجاوَزة ثُنائيّة (سُلطة المُؤلِّف ـ موت المُؤلِّف( بما هيَ ثُنائيّة مُؤسَّسة على الفَهم الميتافيزيقيّ لثُنائيّة (الخارِج / القراءة السِّياقيّة( و)الدّاخِل / القراءة النَّسَقيّة(!
والمقصودُ بذلكَ أنَّ الحداثة الحُرّة الجديدة تستطيعُ وفقَ حركيّة الخَلْق الشِّعريّ بينَ الذّاتيْن، وبما هيَ حركيّة جدَليّة تخارُجيّة مُتراكِبة، أنْ تخلِّفَ وراءَها ـ وبكُلِّ ضميرٍ مُرتاح ـ تلكَ الرُّؤى التي كانَتْ تفصلُ اللُّغة عن الوجود، فترى عالَم القصيدة إمّا بوصفِهِ فعلاً تعبيريّاً أنجَزَتْهُ ذاتٌ وقائعيّة واعية ومُتحكمِّة به) سُلطةُ المُؤلِّف(، أو بوصفِهِ بنية لغويّة مُتماسِكة، ومُكتفية بذاتها، ومُنفصلة عن المُؤلِّف، ومُتعالية على الوجود في العالَم (موتُ المُؤلِّف(؛ لِتُقدِّم هذه الحداثة الحُرّة الجديدة اقتراحَها الخاصّ الذي يرى عالَم القصيدة بخُصوصيّتِهِ المُغايِرة، والتي هِيَ مزيج من مُجاوَزة السِّياقيّة والنَّسَقيّة من ناحية، ومن طيِّهما في جدَليَّتها المُتراكِبة من ناحية ثانية، وذلكَ فيما سأصطلِحُ عليهِ بـِ : عالَم النِّسْياق الشِّعريّ، والذي هو النَّتيجة الحتميّة والجوهريّة لعمليّة إحلال الدّازِن التَّخارُجيّ محلَّ الذّات القديمة، ثُمَّ فصمه.
ثانياً: الماهيّة بوصفها انفتاحاً – نحوَ ـ المجهول:
أنْ يكونَ الانفتاحُ الشِّعريُّ تخارُجاً يعني أنْ يكونَ دائماً) نحوَ(؛ و)نحوَ) تعني مُجاوَزة مُستمرّة لِكُلِّ ثَباتٍ أو انغلاق!
وينبعُ هذا الفَهم من تجذُّر وجود) الذّات ـ الدّازِن (في الزَّمانيّة؛ وهو الأمرُ الذي يعني أنَّهُ من المُستحيل أنْ يتأسَّسَ الكائنُ على قاعدةٍ ثابتة أو أصلٍ خالص، ذلكَ لأنَّ الزَّمنَ عاملُ عدَمِ تشابُهٍ وابتعادٍ واختلافٍ يحملُ معهُ تهديداً دائماً للهُوِيّة، ولهذا ينحو الكائنُ قُدُماً صوبَ التَّعدُّد والتَّبعثرُ والانفصال، وتغدو هُوِيَّتُهُ في استحالة كونِهِ (هوَ( دوماً بلا تبدُّل أو تحوَّل أو تقلُّب، أو في استحالة التَّماهي معَ ذاتِهِ وصورتِهِ في ماهيّة جوهريّة ثابتة، فهوَ في حالة) قذف( مُتواصِل إلى الأمام، واتّجاههُ ـ نحوَ ـ زمانيّة المُستقبَل هو اتّجاه من أجل ما لَمْ يوجَد بعد، كأنَّهُ يعدو دائماً أمامَ ذاتِهِ. فالذّاتُ ـ الدّازِنُ لا يكتمِلُ وجودُها في العالَم الشِّعريّ؛ إنَّما يبقى على الدَّوام بحثاً عن تحقيق كمال الكينونة التي هيَ ليست سوى مُجرَّد إمكانيّة تنبسِطُ بوصفها ماهيّة مفتوحة ـ نحوَ ـ المُستقبَل؛ أي بوصفِها مُحصِّلة الحركيّة الجدَليّة التَّخارُجيّة المُتراكِبة بما هيَ حركيّة تبعثُر وتشظٍّ واختلاف ـ نحوَ ـ المجهول.
إنَّ فصمَ) الذّات ـ الدّازِن( ليسَ في جوهره سوى إجراء نظريّ ضروريّ نُعَلِّقُ به فهمَ القصيدة بوصفها ماهيّة مُكتمِلة للذّات الشّاعرة الوقائعيّة، لنحتفيَ اعتماداً على حركيّة الجدَل المُتراكِب بتشتيت هذه الماهيّة لحظةَ انفتاح الوجود الشِّعريّ للذّات الشِّعريّة الافتراضيّة على مُمكنات مُتحوِّلة ومُتغيِّرة باستمرار. فالتَّشتيت أو الانتشار هو نقضٌ لمركزيّة الذّات ووَحدتها، وهو توليد للفوارق ومسافات الاختلاف بالتَّعدُّد ونفي المحدود والمُغايَرة وعدم التَّشابه وإرجاء المعنى. ذلكَ أنَّ هذا الإرجاء يعني تكاثُرَ الوجود بطريقة يصعبُ معها على الذّات ضبطُهُ والإمساك به أو السَّيطرة عليه، إلا في ضوء اللَّعِب الحُرّ لأساليبهِ بما هي حركيّة مُستمرّة تُثير عدم الاستقرار والثَّبات بوصفها تستجمِعُ المُتناقضات، ثُمَّ تبسطها في الحركيّة ـ نحوَ -؛ أي بوصفها اختلافاً مُتحرِّكاً ديناميكيّاً ـ نحوَ ـ المُستقبَل والمجهول.
لقد أُسِّسَتِ الحداثة الشِّعريّة على ميتافيزيقا الحُضور التي تنظر إلى الرؤيا الحداثِيّة بوصفها حركيّة انتقال من الرّاهن المُتحوِّل العابر في العالَم الوقائعيّ، إلى الكُلِّيّ الثّابت الدَّائم أو الأبديّ في عالَم القصيدة. وهو اعتقادٌ يقوم في خلفيَّته الفلسفيّة على فَهم الوجود انطلاقاً من الموجود، وعلى فَهم المجهول انطلاقاً من المعلوم، وعلى الاعتقاد أنَّ الماهيّة تسبقُ الوجود.
لكنَّ حداثتَنا الحُرّة الجديدة تقلبُ هذه الآليّات، وذلكَ بما هيَ مُحايَثة وجوديّة تسعى إلى مُجاوَزة ميتافيزيقا الحُضور اعتماداً على حركيّة الجدَل التّخارُجيّ المُتراكِب، فتنطلِقُ من أساليب الوجود في العالَم لفهم الموجود، ومن المجهول لفهم المعلوم، وذلكَ بوصف المجهول ليسَ سوى احتمالات افتراضيّة تمتدُّ بينَ المرئيّ وغير المرئيّ، وبينَ السَّطح البصَريّ الخارجيّ والسَّطح البصَريّ العميق، وتُؤوَّلُ بناءً عليها أساليبُ وكيفيّاتُ الوجود المُتنوِّعة التي تنبسِط في عالَم القصيدة، وتسبق الماهيّة.
إنَّ حركيّة الجدَل التَّخارُجيّ المُتراكِب) بينَ الذاتيْن (تُفكِّكُ التَّمركُز الميتافيزيقيّ على الموجود بوصفه معلوماً يتمُّ إحضارُه وتمثُّله والتّحكُّم به وفقَ سُلطة الذّات، ثُمَّ يُطلَقُ عليه زيفاً اسم الوجود، ليكونَ ماهيّةً مُسَبَّقة لهذا الموجود. فتبسطُ حركيّةُ الجدَل أساليبَ الوجود الشعريّ أمامَنا، وتجعلُ منها مُنطلقاً أوَّلاً لفهم الموجودات وعالَم الأشياء، وذلك باتّجاه هذه الأساليب المُستمرّ ـ نحوَ ـ المجهول، وبوصفِ هذا الاتّجاه حركيّة الماهيّة التي لا يُمكِنُ القبض عليها في صورة ثابتة مُطلَقاً. فمعنى أنْ تكونَ الماهيّةُ غير مُتعيِّنة، لكون أساليب وجود) الذّات ـ الدّازِن( المُنفتِحة في عالَمها الشِّعريّ أساليب وجودٍ تخارُجيّة مفتوحة ـ نحوَ ـ المجهول، يعني بطريقةٍ ما، أنَّ هذه الماهيّة هي بحدِّ ذاتها ذلكَ الانفتاح المُستمرّ ـ نحوَ ـ المجهول؛ إذ إنَّهُ بعدَ أن تنطوي أساليب وجود الذّات الشّاعرة الوقائعيّة في أساليب وجود الذّات الشِّعريّة الافتراضيّة، تغدو الماهيّة مُطابِقةً لحركيّة انفتاح أساليب الوجود الشعريّ المُتسارِعة بلا هوادة ـ نحوَ ـ المجهول.
وبهذه الصّورة، تقومُ الحداثةُ الحُرّة الجديدة على فكرة أنَّ المُتحوِّل يُفضي دائماً إلى مُتحوِّل؛ أي إنَّ القصيدة بوصفها عالَماً وجوديّاً مُحايِثاً لا تملكُ موقعاً مُتعالياً كي تُنتِجَ رُؤىً شُموليّة ثابتة ونهائيّة، إنَّما هيَ فضاءٌ مُتغيِّرٌ ينقلُ مفهومَ) رُؤية المجهول( في الحداثة من دلالة رُؤية ما هو ثابت وأبديّ، إلى دلالة رُؤية ما هو مُتقلِّب في حركيّته ومُتحوِّل باستمرار.
إنَّ انقلاب الحداثة الحُرّة الجديدة بمنفتحاتها الافتراضيّة المُغايرة على الحداثة البالية القديمة، يعني أنْ نُخلِّفَ وراءَنا تلكَ التَّكتيكات القاصِرة، وأنْ نتلقَّفَ شُروطَ الخَلْق الشِّعريّ الجديد بوصفها استراتيجيّات كينونة مُستقبليّة، تسمَحُ لنا بالاستجابة الغنيّة لِلتَّحدِّي الوجوديّ ـ الجَماليّ، وتمنَحُنا تبعاً لحركيّة الجدَل التّخارُجيّ المُتراكِب إمكانيات واسعة لاستئناف الحداثة، وإنقاذ الجَماليّ المغدور فيها، بالانتقال من مَجال القصيدة (النِّهاية)، إلى مَجال القصيدة (البداية الدّائمة( ، مُحقِّقينَ بذلكَ أهمَّ أهداف الحداثة الحُرّة الجديدة، وهوَ: السَّعيُ إلى مُجاوَزة الميتافيزيقا؛ على أنْ نعيَ تماماً أنَّ هذه المُجاوَزة بوصفِها طُموحاً مشروعاً وضروريّاً، لا تتحقَّقُ بقرارٍ حاسِم أو بفعلٍ نهائيّ، إنَّما هيَ أسلوبُ وجودٍ شعريٍّ، وطريقةُ فَهمٍ وتأويل، تُبقِي الشاعرَ الجديدَ ـ في ـ عالَم الدِّربة والمُكابَدة والتَّجريب، بما هو عالَمُ البَحث الدَّؤوب والصِّراعُ الأصيل في الطَّريق التَّخارُجيّ – نحو – .

شاعر سوري

مازن أكثم سليمان

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *