الأذنُ إذا رأتْ
[wpcc-script type=”ad9c22ce99e4a15bf87d1a28-text/javascript”]
يبحثون عن قرائن تنالك. كي يقولوا: انظروا.. أليس هذا دليلاً على جنونه؟
بين اللون والآخر مسافة ضوء بطيء يتثاءب خارجاً من أيقونة الصلاة. كلما ذهبتُ الى رسم تهندمتُ له بالقلب وشهواته، بالعقل وهفواته. الروحُ مبذولة للتضرع والجسدُ للنار والنصال. لم يكن الأمر كما يَصِفون. كنتُ في لحظة الكشف والاكتشاف لفرط الرؤية وخوف القلب وقلة الزاد وعتمة المعاني. يحضر لك صديق ينعشك ويحاصرك، صديق يَعسف بك عوضَ أن يُسعفك. تستنجد به فيأتيك مصحوباً بالصواعق.
جاء غوغان إلى آرل عاصفاً، بسطتُ له البيتَ مثل شرفة السماء. فتولاني بإيقاعه الجهنمي، ليكمل صوت امرأة لا تكفُّ عن الكلام، وجيش من المرجفين في البلدة يهمسون البذاءات من حولي. ثمة من يسحقني سحقاً ويسثير دمي مثل منشار الزجاج. غمرتني موجةٌ من بهار الجحيم، غزاة أليفون ينتعلون أعصابي وينهرون كل عضلة في كياني الهشّ. يولمون بي مختلطاً بما يجعل مشاعري في سحيق الإدراك. طحين يتذرذر من حولي فأنكبّ أجمعه في المناخل. يدٌ في اللون، يد في الرسم، يد في البياض الباهر، وعيناي طيور ضائعة في العماء.
قتلنني نساءٌ كثيرات، وغوغان استكملني. كان عليه أن يدرك أنه كان طارئاً في آرل تلك الليلة. تعرَّفَ على راشيل ليلة أخذتُه إلى الحانة. كان يدرك حالتي قبل قدومه. بيتُ عنكبوتٍ يتداعى عند هبَّة ريح صغيرة، يعرف كيف أن العذاب عند الباب. دعوته صديقاً يؤنس الوحشة ويوقظ الرسم. كنتُ وحيداً مثل صخرة في طريق، صخرة تدهسها العربات وحوافر الخيل. رجوتُ ثيودور، تضرَّعتُ له ليساعد في استضافة غوغان. فأعددتُ له غرفة الملكات في بيت الأصدقاء. استقبلته مثل نجدة السماء غير مصدّق أنه جاء.
فماذا فعل بي منذ لحظة البيت.
كنتُ في الشفير فأخذني نحو الجرف ودفعني إلى الهاوية. حتى وهو يحاول مساعدتي على ترتيب البيت والقرية والحياة والكون، كان يفتك بي. أقول له: نحن أصدقاء يا بول، وأنا مريض على شفير الانهيار. وهو يتصرف مثل فارس في معركة. لا أعرف بالضبط، هل جاء ليقاتل معي أم ليقتلني. لم يكن يترك السيف من يده طوال الوقت، لقد كان: هل من مبارز؟
في الليل، أخذته الى الحانة أباهي به أصدقائي، فأخذ يتصرف وكأن راشيل إحدى محظياته. لستُ ملاكأً، لكن صديقاً مثله كان قادراً أن يجرفني إلى الجحيم في ساعة واحدة. اللوحات التي نرسمها، يمزقها أمام حشد الحانة. يؤرِّق المسترخين في أقداحهم، ويجلجل معتلّي القلوب. كلما التفت ناحيتنا قلبٌ قصفه غوغان مثل خرتيت يداعب الفراشات. يصرخ في وجهي: لا يمكن لامرأةٍ أن تعجب بمجنون مثلك. شجارُنا، مشاحنات الكلام، يختلط فيها نقد الرسم بفوضى المماحكات. بلا اكتراثٍ يحاصرُ البيت. يَبْرُدُ المناشيرَ في عظامي، كلما قال كذباً صدقته لكي أطفئ حُمَّاه. لا أنصحُ أحداً باستقبال صديقٍ متعجرفٍ مثله في البيت. هذا الفوضوي الأخرقُ كان يريد تلقيني درساً في التهذيب. فأصغيتُ إليه، غير أنه لم يفوِّتْ فرصة دون أن ينتخب الكلمات الجارحة في العمق. تركنا الحانة فطفق يفاخر: هل رأيتَ كيف وقعتْ في غرامي، إنها امرأة مشبوقة بما يكفي لاغتصابها يا فنسنت. كيف يكلمني بهذا الشكل عن امرأةٍ يعرف أنها صديقتي. رغبتُ في الندم لكوني سعيت إلى دعوته.
وما إن بدأ الرواةُ، حتى انطلقتِ الحشرات والزواحف تفيض على الدفاتر، وصدَّق كلٌ روايتَه. الكثيرون صدَّق غوغان في وصف صداقتنا. ريشتُه في حافة قبعته القرصانية، يداه مشغولتان بالأسلحة، وعلى كتفه حقيبة الرسم، يجول في سديم الطرق المتربة الضيقة في آرل، يوزع فخاخه في تغضنات الحقول وينادي الطيور بالأحابيل. يفتح الثقوب في الجدران بحجة ندرة النوافذ في البيت، يغيِّر ألوان اللوحات ويهشَّم الرسوم بالمناجل، وكلما نبَّهتُه نَهَرني بالمخالب والأنياب. وعلينا أن نظل أصدقاء.
أن يكون غوغان شاهدك الوحيد على أحداث لم يحضرها أحدٌ سواه، أن ترى صورتك في مرآة مشروخة مرضوضة بالأقدامٍ الصديقة. عليك أن ترأف بنفسك وتربأ بها. مثلما اجتاحني بغطرسته الجامحة هناك، عاد يروي حياتي بالغطرسة ذاتها. كيف أصدّق الأصدقاء.
ثمة ما يدعو إلى السأم والإحساس بفجاجة النوايا. تركت ضجيج الماضي وهو يمضي، وذهبتُ أستخرج الأرجواني الطازج والرملي العتيق من صفرة صارمة. اللوحات منتظرات في البهو، وأروقة البيت مشغولة بالفراغ. بصحبة الإعصار، يصبح الليل في درجة الهذيان لفرط كثافة الاحتدام والذعر. يضعني في المهبّ ويزعم أنه سهل الوادي الممتنع. كنتُ تضاريس الهذيان.
لستُ متيقناً مما حدث.
لكنَّ غوغان لم يمسّني بسيفه تلك الليلة. اخترقَ روحي بفجاجته، داهمَ سكوني الداخلي بالجنازير، صَفَـقَ أبوابَ المدينة في وجهي، دفعني الى الهاوية تقريباً. كل هذا صحيح، لكنه لم يقطع أذني. تلويحاته بسيفه القديم لم تتجاوز المزاعم، فقد كان يمارس تمريناته المعتادة قبل الرسم. لكنه لم يقترب أكثر من ذلك. أنا مَنَ فعل ذلك.
أو.. ربما.. نعم، لا أعرف، ربما..
فعلتُ ذلك بطريقةٍ ما، دون أن أقصد. الأطفال يرتكبون أفعالاً غير متوقعة أحياناً، وغير منتظرة غالباً. حين عدتُ الى البيت لم أقدر على النوم. لجأتُ الى القلعة التي تحميني دائمأً: الرسم. أخذتُ الفرشاة وبدأت بالتحرر والتطهر والانفصال. كان الضوء شاحباً مثل روحي. ذهب هو للمبيت في نزل البلدة. أما راشيل فقد صدَّقت أن غوغان فارسها.
لم أدرك ما حدثَ إلا حين رأيتُ النهر القاني في يدي، ممسكاً بسكينة الرسم في يدين ملطختين بالدم. كان جرحاً سطحياً. عادة، في وقت الرسم أكون متصاعد الوتيرة على الشفير العالي، في خروج الكائن من كيانه، كما لو أنني غير موجودٍ ولا أكون. تلك الحركة العفوية التي أقوم بها، من حيث لا أقصد، في حمأة العمل، أفرك أذني فيما أكون منشغلاً بالرسم، أفركها دون أن أعي أنها تكاد أن تُخدش، أفركها فتحمرُّ مثل كبد الوعل الذبيح. كانت السكين في يدي أثناء الرسم. وكنت في لحظة الهياج، فأحدثتْ تلك الحركة جرحاً في شحمة الأذن. هل كنت في اللوحة، في الرسم، أم في المرآة، أم هو نحلُ النحاس في الجمجمة.
أمسكتُ الريشة وأزلتها، فاختلطَ الأمرُ عليّ، بين رأسي خارج اللوحة ورأسي هناك. رغبةُ اللاوعي فعلتْ ما تريد. لم أشعر بالجرح. كفّي ملطخة بالرحمة، فاختلط دمي بلوني، خزائني في النهب فانتبهتُ. كان الأحمر في يدي، كلما رفعتُها لاحظتُ فلذة من شحمة أذني جزَّتها شفرةُ الرسم فامتزجتْ بأخلاطي.
طفقتُ أزيحُ القميصَ
أُزيحُ الألوانَ
أزيح الغابات
أزيح الطبيعة وانهماراتها
أزيح الكلمات ودلالاتها
أزيح الآيات
لأرى أجملَ أذنٍ ترى.
نهرٌ صغيرٌ يرسل حُمْرَته القانية على رقبتي، منحدراً حتى منحنى كتفي الأيمن، ينقسم في جدولين بقطراتٍ متدافعة: جدولٌ ينساب على الصدر منسرباً تحت الإبط، يزخرف طريقه برُقيمات طريّة لا تزال. جدول يتدفق في أطفالٍ فرحين ينهمرون من بوابة المدرسة نحو الشمس، يلوّحون بقلوب الدهشة، لأرى شخصاً متوشحاً بدمه معلقاً في خشبته، معلناً أنه السيد. لأرى عنقَ حصانٍ أصهبَ تقصفه أجنحة الريح وتقتفيه الضباع.
راقَ، لمن يراني الكائنَ الغريب، أن يحوكَ قصة المجنون الذي قطع أذنه ليقدمها إلى امرأةٍ لم تكترث به. مجنون، مجنون. ربما، لكن يتوجب أن يكون وحشاً مَنْ يُقْدِمُ على قطع جسده بيده. كنتُ ذلك الوحش ليلتَها، أركضُ بالفلذة الدامية إلى امرأةٍ كي تكفَّ عن ثرثرتها. ثم لن أتذكر شيئاً في اليوم التالي. وحين حاولتُ أن أشرحَ الأمر، صَرَخَ بي أحدهم: عليك أن تبحث عمَّنْ يصدقك.
هل من أحدٍ يُصدقني يا أصدقائي؟
بقيتُ وحيداً في قلعتي. ثيودور كان بعيداً عني مسافةً كافية لأبقى بلا معين. سهرتُ حتى الجنون. وفي الصباح كان الطبيب فيليكس راي يقف إلى جانب سريري يريد أن يعرف: ماذا فعلت بنفسك؟ فعرفتُ أنه بدأ يقرّر ما حدث قبل إدراكه الحقيقة. ماذا فعلت بنفسك! أخبرني الآخرون عن شخص، في كياني، حمل فلذة الأذن المقطوعة وذهب ليطرق باب راشيل يهديها تلك القطعة البشرية لتعتني بها، وقيل لكي تحكي لها ما تشاء. جنونٌ أن يصدر هذا عن كائن عاقل. هل فعلتُ هذا فعلا؟ انحنى الدكتور راي عليّ هامساً: لقد كنتَ قاسياً على نفسك يا فنسنت. الأقربون؟ أين هم الأقربون؟ ليس سوى ثيودور، وهو لم يكن هناك ساعتها.(٭)
(٭) فصل من كتاب جديد بعنوان»أيها الفحم، يا سيدي ـ دفاتر فنسنت فان غوخ»، يصدر عن دار مسعى؛ وهذا النصّ يُنشر، هنا، بإذن خاصّ من الشاعر.
قاسم حدّاد