الأسلوب الوثائقي في السرد الروائي

القاهرة ــ «القدس العربي»:يستعين الروائي بالوثيقة أو الوقائع التاريخية ليُعيد خلق بناء فني خيالي، تتحول فيه الوثيقة أو الواقعة إلى جزء لا يتجزأ من هذا الخيال، وأطلق بعض النقاد مُسمى (الرواية الوثائقية) عند الحديث عن هذا الشكل الروائي، الذي يستعين بتوظيف الوثيقة أياً كانت... خطاب/تسجيل صوتي/أحداث مؤرشفة وهكذا من أشكال الوثائق بمفهومها الواسع.

الأسلوب الوثائقي في السرد الروائي

[wpcc-script type=”828b1c1fcb6d436f85b0b3f9-text/javascript”]

القاهرة ــ «القدس العربي»:يستعين الروائي بالوثيقة أو الوقائع التاريخية ليُعيد خلق بناء فني خيالي، تتحول فيه الوثيقة أو الواقعة إلى جزء لا يتجزأ من هذا الخيال، وأطلق بعض النقاد مُسمى (الرواية الوثائقية) عند الحديث عن هذا الشكل الروائي، الذي يستعين بتوظيف الوثيقة أياً كانت… خطاب/تسجيل صوتي/أحداث مؤرشفة وهكذا من أشكال الوثائق بمفهومها الواسع.

الأسلوب

يذكر إدوين موير الرواية الوثائقية بصدد حديثه عن أشكال أو أنماط الرواية، فيصفها بأنها تجمع بين رواية الحدث والرواية الدرامية. وهو تعريف يشوبه الكثير من القصور، فقد تقوم رواية تتوسل التوثيق على عنصر الشخصية بالكامل (راجع رواية نورمان ميلر لغز أمريكي/حكاية أوزوالد) على سبيل المثال لا الحصر. فالاقتصار على الزمان والمكان فقط لا يحيط بهذا الشكل الروائي عِلما. فالرواية الوثائقية موقف وأسلوب، قبل أن تكون قياساً للزمان والمكان، والموقف هو عدم إضافة دلالات لا تتحملها الرواية، والأسلوب يتمثل في الاهتمام بالظاهر المحسوس، في حدود لغة قريبة من الاستعمال المألوف. كما أن الرواية الوثائقية من حيث بنيتها فهي بنية زمنية متخيلة، أكثر عينية وتحديداً، هي تاريخ متخيل داخل التاريخ الموضوعي. وقد يكون تاريخاً لشخص أو لحدث، أو لموقف أو لخبرة، أو لجماعة أو للحظة تحوّل اجتماعي، إلى غير ذلك.

الفضاء التاريخي

فأساس الرواية ذات الشكل الوثائقي يكمن في الفضاء التاريخي ــ لا يقتصر الفضاء على المكان ــ هذا الفضاء الذي يستعيره الروائي ويُعيد تأويله وفق وجهة نظره ــ أو التشكيك في صحته ــ بحيث يصوغ حكايته ويوحي بدلالاتها المختلفة والمعقدة وفق هذا السياق أو البناء الجديد الذي يؤكد من خلاله رؤيته الخاصة. وهنا يصبح البناء متفرداً بذاته وخيالياً تماماً، بحيث أصبح ما يستند إليه ــ على اعتباره وقائع ــ يصبح داخل النص مبنى مُتخيّلا بالكامل. تؤكده عمليات الانتقاء المستمرة التي يقوم بها الروائي من الوقائع والوثائق المتاحة، هذه الحرية في التعامل مع الوثيقة، هي التي تعيد صياغتها في شكلها المتخيل الجديد، إضافة إلى أن الوثيقة في شكلها التاريخي ممسوسة بالخيال.

وهم الواقع

ويذكر جول فاولز في مقال بعنوان «ملاحظات حول رواية لم تنته بعد» أنه لا يمكن وصف الواقع، ولكن فقط إعطاء تشبيه يُشير إليه، كل أنواع الوصف الإنساني من التصوير إلى الرياضيات إلى الأدب أيضاً كلها استعارية، وحتى الوصف العلمي الدقيق لشيء ما أو لحركة ما، هو نسيج استعاري. الحديث هنا عن العلاقة بين المحكي/المتخيل مع الخطاب التاريخي والوثائق، وصولاً إلى تجاوز محاكاة الواقع وإعادة خلقه، ليصبح عالم الوقائع والأحداث هو المدلول، والمتخيل الذي يحكي عن هذا العالم هو الدال، هذا في حالة انتظام علاقة بين دال ومدلول، وهو يتحدث هنا من منظور حداثي، أما ما بعد الحداثة فقد نفت أي علاقة ما بين دال ومدلول، وقد انفصمت هذه الرابطة تماماً.
ومن ناحية أخرى يُفسر ديفيد لودج الأمر أكثر في دراسة بعنوان «الروائي في مفترق طرق»، خاصة وهو يتحدث عن الرواية الوثائقية، ضارباً برواية (نورمان ميلر/جيوش الليل) المثال، حيث يرصد السارد من خلالها الواقع مصحوبا بإمكانية خيالية من داخل علاماته الخاصة، أي مفرداته البنائية الخاصة، أسلوب التناول ووجهة النظر. فالأمر لم يعد محاكاة، بل ضرباً من الخيال الصريح، من دون التواري خلف أشكال ورموز تنصب فخاخاً للقارئ/المتلقي/المشاهد بأن ما يقرأ أو يرى هو ما حدث بالفعل، بل يسعى الروائي لأكثر من ذلك، إذ يتوقف ليخبر القارئ بكيفية عمله داخل النص.
ويوضح ميلر نفسه ذلك داخل عملية السرد «إن الجزء الثاني يفرض الآن كنوع من التكثيف، حيث أن غموض الأحداث في البنتاغون لا يمكن أن يُشرح بوسائل التاريخ، ولكن فقط بغريزة المؤلف». ويعلق لودج على هذه العبارات بقوله.. إن ميلر يطلب الحرية ليعزز سرده بخلق شيء حي، كتخيل الخطبة التي يُلقيها الميجور على جنوده قبل المواجهة مع المتمردين الذين يواجهون مبنى البنتاغون، وحيث ميلر نفسه أحد هؤلاء الواقفين بالخارج. فالأدب يوجد في المعرفة وكيفية إيصالها، وليس في الحقائق.

تجربة صنع الله إبراهيم

تعتبر تجربة الروائي صنع الله إبراهيم من التجارب اللافتة في الرواية العربية منذ أوائل نصوصه المعنونة بـ»تلك الرائحة» 1966، حيث ينتبه إلى خلق توثيق لحالة أو جو عام كانت تعيشه مصر في ذلك الوقت، ولم يقلل منه سرد تجربة الروائي الذاتية، بعد فترة خروجه من السجن. هذا الأمر الذي اتضح أكثر وصار شكلاً مُلازماً لمعظم أعمال صنع الله إبراهيم، الذي تجلى في كل من روايات … «نجمة أغسطس، بيروت بيروت، ذات، وردة» ـ كتب في مقدمتها.. من الأفضل أن تُقرأ على أنها رواية ــ مروراً برواية «شرف والعمامة والقبعة» وغيرها، رغم تباين مستوى هذه الأعمال من الناحية الفنية. فعل التوثيق هذا لا يُنكر وجوها في معظم هذه الروايات، ورغم أنه يستند إلى العديد من الوقائع والوثائق التاريخية، إلا أنه لا يستسلم لها، بل يُعيد تشكيلها وفق هوى الرواية ووجهة نظره. كما أنه يقوم بفعلين متضادين في الوقت نفسه.. يتوسل بالوقائع والتاريخ ليضفي شيئا من الحقيقة، ويفضح هذا الزعم بقول الحقيقي في الوقت نفسه!

الإيهام بالحقيقة

لنأخذ افتتاحية رواية «ذات» 1992 على سبيل المثال… «نستطيع أن نبدأ قصة ذات من البداية الطبيعية، أي من اللحظة التي انزلقت فيها إلى عالمنا ملوثة بالدماء… لكن بداية كهذه لن يرحب بها النقاد… بالإضافة إلى هذا، فإن النظرية العصرية لفن القص هي نظرة حسية ذكورية تمامًا… لماذا نذهب بعيداً ولدينا مدخل طبيعي، محمّل بقدر عال من الدراما، بل الميلودراما، ونقصد بذلك لحظة الصدمة الكبرى، ليلة الدخلة».
هنا يبدو المؤلف وهو يعرض للقارئ/المُتلقي الاحتمالات المُتاحة لبداية النص، هناك عدة احتمالات لهذه البداية، وبالتالي ورغم التناوب بين فصل للحكي وآخر للتوثيق ــ الرواية هنا تنتمي للشكل التوثيقي لا عبر النوعي، كما يذكر إدوار الخراط ــ فالأمر كله يتأسس من خلال وجهة النظر، ويصبح خيال الاختيار والانتقاء مسموحاً به لأقصى درجة، حتى من خلال الوثيقة أو الموقف التاريخي. هناك حالة انتقاء إذن، ومعها تنتفي الحقيقة والموضوعية. ورغم ذلك يتوسل المؤلف بما يُشبه الوقائع لإضفاء مصداقية/حقائق على عالمه السردي الخيالي/ حقائق موهومة تم التأسيس لها من البداية. وتتعدد طرق ذلك في التوسل بأكثر من وسيلة تدعم حقيقة المعرفي/المسرود، وذلك من خلال الارتكاز على حضور المرجعي داخل النص، ليكون/المرجعي بمثابة دليل أو شاهد على حقيقة المعرفة التي تقدمها عوالم المتخيل وما يُنسجه من علاقات تسمح بتقديم معرفة للوعي الجمعي.
ومن أجل إعطاء هذه المعرفة طابع الحقيقة يتوسل المعلومات التي توفرها قصاصات الصحف، المجلات، المدونات، أي اتخاذ منحى توثيقي لإنتاج معرفة لها مصداقيتها أو بالأصح توحي بها.

رواية «ذات» كمثال

فالتوثيق هنا أسلوب للإيحاء وخلق المفارقات التي يجيدها صنع الله إبراهيم، خلق فضاء عام تتحرك خلاله الشخصيات، ونأخذ رواية «ذات» مثالاً، فتناوب الفصول هنا يخلق فارقاً حتى على مستوى الراوي/المؤلف. الراوي العليم الذي يحكي حكاية ذات، والمؤلف الذي يخلق من قصاصات الصحف والوثائق المرئية ــ لقاءات تلفزيونية وما شابه ــ عالماً تدور في فلكه الشخصيات. مناخ عام يؤثر في سلوكها ومعتقداتها، مناخ قادر على صياغة حيواتهم بالكامل. «عند عودته من السوق مُحملاً باحتياجات العشاء.. رأى حذاءً نسائياً، خالياً بالطبع، ملقى أمام باب جاره. ورغم انهماكه في حساب ما أنفقه.. فإنه استطاع أن يلقي نظرة متأنية على الحذاء، أمدّته باكتشافين: الأول أن الحذاء موضوع بعناية فوق فرشة من المطاط، والثاني أنه موضوع بتشكيل غير مألوف يبدو متعمداً، فالفردان مقلوبان ومتعامدان على هيئة الصليب. أدركت ذات بغريزتها الأنثوية السر من نظرة واحدة، فقالت بعد أن أصبح عبد المجيد داخل الشقة وأغلقت الباب: «عمايل الأم». استفسر عبد المجيد في براءة: «عمايل إيه؟» زادت في الإيضاح: «شبشبة، فنعل الحذاء في وضع الصليب كفيل بإحباط المكائد وردّ الكيد إلى صاحبه».
هذا الموقف البسيط الذي اندهش له عبد المجيد، واكتشفت مغزاه ذات، يحمل في دلالته مدى التفكير العقلي الذي أصاب شخصيات ذلك العصر، التفكير الخرافي، الذي ساعد عليه مناخ ديني، أدّى إلى أن تعود المعتقدات الخرافية مرّة أخرى وتتأصل في نفوس وسلوك الشخصيات، كاتقاء الحسد بوضع الحذاء المقلوب على عتبة الباب. هذا المناخ/مناخ الرّدة هو ما يكشفه المؤلف في الفصل اللاحق على هذا الموقف، ويصبح الفصل شبه المُعتمد التوثيق هذا هو الفضاء الأكبر/المتن السردي، لقصة ذات/المتن الحكائي.

ولنتأمل مختارات المؤلف الآتية..

نجم كرة السلة مدحت وردة: «حلقت شعري لوجه الله، تعالى، وبدأت الالتزام، فأطلقت اللحية وسألتُ علماء كثيرين وقرأت وتأكدتُ أن عورة الرجل من السرّة حتى الركبة، فقررتُ إطالة الشورت لينسدل حتى ركبتي، لأمارس الرياضة من دون معصية الله في شيء»/الشيخ محمد متولي شعراوي في التلفزيون: «صليتُ لله شكراً يوم هزمت مصر في 1967»/الشيخ متولي الشعراوي: «عمل المرأة إهدار لكرامة الرجل»/الشيخ متولي الشعراوي: «المرأة اضطرت للخروج إلى العمل، لأن الرجولة للأسف أصبحت خائرة»/الأزهر الشريف يؤمن بقضاء الله وينعى إلى الأمة الإسلامية قائداً من أعظم قادتها المعاصرين، الرئيس محمد ضياء الحق، أخلص لأمته وصدق في جهاده واعتز بدينه وآثر الحق وعمل بشرع الله/الإخوان المسلمون يذكرون للرئيس الباكستاني عاطفته الإسلامية المتأججة وتمسّكه بآداب الإسلام وأخلاقه وشعائره ومساندته العظيمة لمجاهدي أفغانستان/مجلة «فورتشون الأمريكية»: «سلطان برونوي هو أغنى رجل في العالم (52 مليار دولار)، يليه الملك فهد خادم الحرمين الشريفين (18 مليار دولار)/إمام مسجد النور في مدينة ملوى: «النصارى أفسد وأضل عقيدة من عبدة الأصنام/الشيخ متولي الشعراوي في التلفزيون: «لم أقرأ كتاباً غير القرآن منذ أربعين عاماً/جريدة «مايو» لسان الحزب الوطني الحاكم، التي أسسها السادات ويرأسها عبدالله عبدالباري وأنيس منصور: «فضيلة الشيخ الشعراوي يهدي جناً كافراً إلى الإسلام/وزير الداخلية: «الإمام الشافعي قال إنه يجوز للحاكم أن يقتل ثلث السكان في سبيل أن يحيا الثلثان في أمان/جريدة «مايو»: «فضيلة الشيخ الشعراوي يقهر عفريتاً احتل جسد أحد الشبان/قارئة الطالع الحاسبة من كاسيو تنبئك فوراً بطالعك وتوفّقك مع الآخرين في الصحة والحظ والحب». (ذات ـ ص 289 ـ ص 318).

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *