الأغاني

أستمع أحيانا إلى أغنيات بطريقة عابرة، كأن أكون مع سائق تاكسي يرفع صوت مسجل السيارة ببعض الأغنيات التي تبثها الإذاعات، أو أثناء تنقلي بين المحطات التلفزيونية، أو عبر وسائل مختلفة صارت تبحث عنا وتجري خلفنا برغبة منا أو من دون رغبة.

الأغاني

[wpcc-script type=”cb9e041f715277508a8f0115-text/javascript”]

أستمع أحيانا إلى أغنيات بطريقة عابرة، كأن أكون مع سائق تاكسي يرفع صوت مسجل السيارة ببعض الأغنيات التي تبثها الإذاعات، أو أثناء تنقلي بين المحطات التلفزيونية، أو عبر وسائل مختلفة صارت تبحث عنا وتجري خلفنا برغبة منا أو من دون رغبة.
وغالبا ما اتساءل ما الذي تحمله هذه الأغاني من معنى؟ أو ما الذي تريد إيصاله؟ أو هل تحمل أي شيء في طياتها مثلا؟ وللأسف غالبا ما أرى أن عددا كبيرا من الأغاني التي تملأ الساحة الموسيقية العربية بلا معنى، وعندما أتحدث عن المعنى فأنا لا أقصد كلمات الأغنية وحدها، فالمعنى تشترك فيه أقطاب الأغنية جميعها، من شاعر وملحن وموزع ومغن.
في الغرب، غالبا ما نستمع إلى أغان تحمل ببساطة كلماتها معاني كبيرة جدا تمس المشاعر الإنسانية وتترك أثرها في النفس بعد سماعها، بساطة في الكلمات تفرض أيضا نفسها على الموسيقى والتوزيع وعلى طبقات صوت المغني أو المغنية، فلا نرى تلك الزخرفة التي تحيط بكل شيء وتفقده طعمه، تماما مثل أن ننتقي لوحة فائقة الجمال ونضعها على جدار يعج بلوحات كثيرة، حينها لا تستطيع أعيننا الوصول إلى اللوحة بسهولة، بل أن النظر سيرهق محاولا أن يوجه طاقته نحو اللوحة المحور.
الزخرفة تفقد الأشياء بساطتها، وبالتالي تفقدها عفوية حضورها، وهذه مسألة ترتبط بكل شيء في الحياة، فالمنزل الذي يزدحم بالأثاث مهما كانت قيمة هذا الأثاث المادية عالية يضيع في الزحام، كذلك الأغنية التي قد تضيع في زخرفة من الكلام والموسيقى والتوزيع والصوت، مما يشعر المستمع بأنه داخل منجم، الجميع يضرب فيه بالمقالع بحثا عن شيء ما، وربما في النهاية لا يجد أحد أي شيء يذكر.
لماذا يستطيع الكثير من الأغاني الغربية الوصول إلى الشارع لدينا؟ وتستطيع هذه الأغاني أن تمس ببساطة مشاعر الناس وتحرك أحاسيسهم وتدفعهم ليس فقط لسماع الأغنية بل لإعادتها مرارا وتكرارا، والاستغراق فيها، وأحيانا نجد أن الأغنية تلك تنقل كلمات في منتهى البساطة لكنها تحمل عمقا يضرب في الأعماق؟
وأعود إلى الأغاني العربية، وبالطبع أنا لا أجمل هنا، بل أتحدث عن ظاهرة باتت تشبه «الأكل السريع» الذي همه أن يسكت الجوع بتعبئة المعدة، من دون أن يحمل أي فائدة، بل على العكس من هذا يحمل ضررا كبيرا وأذى.
الكثير من الأغاني التي نسمعها هذه الأيام لا تؤدي أي معنى على الإطلاق، ومع هذا نجدها تحمل على أغلفتها كلمات الشاعر الفلاني، وتلحين فلان، وتوزيع غيره وغناء فلان، وعندما نحاول أن نستمع فعليا إلى الكلمات نجد أنها لا تقول أي شيء، بل مجرد مترادفات تتطابق صوتيا لتؤدي في النهاية الدور الذي تكمله الموسيقى ومن ثم المغني، ولو تأملنا سنجد ألا معنى وراء أي شيء، وقد يكون المعنى الوحيد هو العدد الكبير للآلات الموسيقية التي تبدو وكأنها «كل يغني على ليلاه»، ومع هذا لا ليلى لمن يغني.
وليس معنى كل ما سبق أنني لا أحبذ الأغنية السريعة البسيطة، أو بمعنى آخر الأغنية الخفيفة، فهناك كثير من الأغاني التي توصف بأنها خفيفة، بمعنى عدم استغراقها في الزخرفات الكثيرة واعتمادها على البساطة في كل مكوناتها، تستطيع النجاح لأنها تحمل في طياتها ذلك السحر الذي يستطيع الوصول إلى المشاعر الإنسانية العميقة، وربما خير مثال على هذا عمل الرحابنة الذين اعتمدوا في كثير من أعمالهم على البساطة المتناهية، محافظين في الوقت نفسه على العمق.
ولكن أن نستمع كل يوم إلى عدد كبير من الأغاني التي تملأ محلات الاسطوانات وتملأ الإذاعات وربما عربات بيع الخضار والباصات وسيارات الإجرة، ولا تحمل أي معنى سوى أنها ضجيج لا متناه يأتي من كل مكان ويملأ الأسماع ويضيع في زحامه كل جيد، أن نستمع إلى كل هذا يصبح عملية قتل بطيئة لمشاعرنا الإنسانية، فبدل أن تكون الموسيقى هي غذاء الروح الأعلى التي تجعل من الإنسان حالة وجدانية عميقة تتحول إلى غذاء لقتل الروح ونفي داخلها، بل ودفنه تحت ركام كبير من حجارة الأغاني المزخرفة بالضجيج.
المشكلة لا تكمن فقط في من يطلقون هذه الأغاني، فالتجارة التي تقف خلفها تجارة كبيرة جدا، وهي تجارة أعلى ربحا من تجارة الأغنية التي تحمل معنى، المشكلة أيضا تكمن، بل أساسا في المتلقي، الذي يتلقف الأغنية ويرددها وهو يعرف تماما أنها لا تحمل أي معنى، ومع هذا لا يتعب من تردادها، لأن السوق علمه أن هذا ما يتطلبه، ولأن ذائقته بدأت تموت تحت كم هائل من الغبار الذي غطاها، ولأسباب كثيرة لو حاولنا الغوص بها لوصلنا إلى السرير الذي حمل الطفل عند ولادته، والضجيج الذي رافق أحاسيسه الأولى ومن ثم مدرسته وكل ما يحيط به.
الشركات التي تقف وراء هذه التجارة كثيرة، وهذا النوع من الأغاني بالنسبة لها تجارة سريعة جدا ومردودها المادي لا يتأخر، فبين مطرب يختار ويدقق ويبحث بين مئات القصائد ليجد ضالته، ومن ثم يلجأ إلى الملحن الذي يستطيع فعلا أن يعبر عن الأغنية ولا يترك أي تفصيل ولو صغيرا في الأغنية للمصادفة وبين مغن يتلقف الكلمات كأنما يقطفها من الأشجار ويستعجل ظهور الأغنية التي «ستكسر السوق» هناك فارق كبير، فالتجارة تريد السرعة في كل شيء ولا ترضى بمطرب يتمهل.
لهذا نجد أن الأغاني التي تحمل في ولادتها حياتها، لا تتعثر في ولادتها، لأنها تلد بعد حمل كامل، فيما تموت الأغاني السريعة لأنها تأتي قبل زمنها بكثير، ولا تنتظر حينها.

٭ موسيقي عراقي

الأغاني

نصير شمه

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *