«البومة العمياء» للإيراني صادق هدايت: الحياة أسطورة حمقاء جديرة بالأوباش
[wpcc-script type=”930e327241296703f6321342-text/javascript”]
القاهرة ــ «القدس العربي»: «مهما يكن فليس في تاريخ حياتي ما يلفت النظر، لم يحدث فيها ما هو جدير بالانتباه، ليس لي منصب مهم، ولا أنا من حَمَلة الشهادات العظيمة، لم أكن أبداً طالباً بارزاً، على العكس من ذلك كان نصيبي دائماً هو عدم التوفيق، ومهما كنتُ أعمل كنتُ أبقى خاملاً ورؤسائي غير راضين عني، ربما لو استقلت لرضوا»، هكذا يصف نفسه (صادق هدايت 17 فبراير/شباط 1903 ــ 9 أبريل/نيسان 1951 ـ الصوت الأكثر صدقاً وحِدة في الأدب الإيراني الحديث، وقد صدرت مؤخراً طبعة جديدة من روايته «البومة العمياء» ترجمة إبراهيم الدسوقي شتا، عن سلسلة روايات الهلال. هذه الرواية التي تعد عمل هدايت الأشهر والأكثر تجسيداً لفلسفته ورؤيته للحياة، عالم الكوابيس المزمنة، واختلاط الواقعي بالخيالي، وصور سيريالية مهيبة. روح قلقة لا تستوي على حال، ولا تجد مكانها إلا في نغمة التعالي على الواقع ومَن يقدسونه، وهذه الحياة وما عليها لم تكن جديرة ولا تليق فقط إلا بالأوباش.
لعنة الذنوب المُبهمة
«لقد أصبحت جنساً غير معروف بين الأوباش، إن الشيء المخيف هو شعوري بأنني لم أكن حيا تماماً، ولا ميتا تماماً.. كنت بالتحديد جثة حية لا علاقة لها بعالم الأحياء، ولا يمكن أن تكسب غفلة الموت وسلامه… إنني أرقد في كفن أسود طيلة حياتي». ذنوب وآثام تحملها روح البومة العمياء، ليس لها من سبب، ولا مفر منها، حالة أشبه بمحاكمة كافكا» ــ ترجم هدايت عدة أعمال لكافكا كـ»المحاكمة» و»المسخ» ــ إلا أن حالة بطل كافكا أنه يتورّط في ما يحدث حوله، لكن هدايت يحاول عبر بطل «البومة العمياء» أن يخلق عالماً آخر، من خلال كوّة في جدار كمجاز لكوّة في الوعي عن طريق الأفيون، هنا يتخلق عالم أصدق من الواقع، يحط من قدره ومن قدر أوباشه، «كنت أمر بلا هدف بين الأوباش، ذوي النظرات الطامعة الذين يسعون وراء الشهوة والمال، ليست بي حاجة للنظر إليهم، ذلك أن واحداً يمثل الباقين.. فم مربوط بحزمة من الأمعاء، تنتهي إلى أعضائهم التناسلية».
الرغبة/التجربة وأحوالها
معراج نفسي لا بد أن يصعده بطل «البومة العمياء» ــ كحالة المتصوفة ــ لكن من خلال أكثر المواقف قسوة، فها هي حبيبته وقديسة روحه «في ليلة الزفاف حين صرنا وحيدين، مهما رجوت والتمست لم تلن لي.. لم تترك لي سبيلاً إليها، فأطفأت المصباح، وذهبت ونمت في الطرف الآخر من الحجرة … وفي الليلة التالية ذهبت ونمت في المكان نفسه على الأرض، واستمر الأمر على هذه الحال في الليالي التالية». لم يضاجع البطل امرأته قط، رغم رغبته التي كانت تشتعل وتذوب كالشمع في سبيلها، قديسة روحه التي لا تعرف عدد عشاقها، وهو لا يستطيع فعل شيء خشية فقدها، فقط اصطياد سلوكهم، ربما ينجح مرّة في أن تنصت إليه.. «وكنت أريد أن أتعلم السلوك والتصرّف والإغواء من أحباء زوجتي.. ولكنني كنت ديوثاً تعسا». أي رغبة يتم قهرها نفسياً وجسدياً يُعانيها البطل، الذي لا يتورّع بعد ذلك عن وصف زوجته بالـ(بغي)، الزوجة المُحرّمة عليه منذ الأزل/أخته في الرضاع. ولا ننسى أن هدايت يكتب أدباً رمزياً، متسقاً مع حالة من رفض الواقع، وما كان به من أحداث سياسية واجتماعية مرّت بها إيران وقتها. هذا الرمز نفسه هو ما أهّل «البومة العمياء» لأن تدور في فلك صوفي ضارب بعمقه في عدة حضارات كالهند وإيران بطبيعة الحال، محاولة للعزلة والاعتزال للنجاة بالنفس في المقام الأول، فما كان من ضرورة مراجعة الذكريات في حالة صفاء من حالات اللاوعي، وهو ما يحققها البطل من خلال الأفيون الذي لم يكن يستفيق منه إلا قليلا.
الحِس الصوفي والرؤية السريالية
برزخ اللاوعي هو ساحة المعارك في نفس وروح البطل، هنا تختلط رموز الواقع وشخوصه بخيالات الراوي وعالمه وذكرياته، وبالتالي كان لابد من إسقاط عامل الزمن والمكان.. «الماضي والمستقبل والساعة واليوم والشهر والسنة، كلها أصبحت عندي سواء، وليست المراحل المختلفة من طفولة وكهولة بالنسبة لي إلا حديث خرافة، ولكنها تصدق فقط على الناس العاديين، على الأوباش.. حياتي كلها كانت فصلاً واحداً يجري على نسق واحد، وكأنها مضت في منطقة باردة وفي ظلام أبدي، بينما كان هناك وسط جسدي مشعلة تحترق وتذيبني كالشمع». انتفاء الزمن هذا صاحبته حالة من التكرارات على مستوى الحدث والشخوص، بأن تتوالد صفات الشخوص وصورها من حال لحال ومن موقف لآخر، لتقترب من الرمز أكثر.. كالقصّاب، والعجوز حفار القبور صاحب الضحكة المزعجة، والفتاة التي رآها من الكوّة وبحث عنها ولم يجدها، لكنها أتت إليه بإرادتها، ولم يجلس بجوارها إلا وهي جثة، يجملها ويحاول البحث عن طريقة لدفنها، هي نفسها الزوجة المُحرّمة التي لم يمسّها، حتى مهنة البطل لم تكن إلا رسومات متكررة لمشهد وحيد شاهده في برزخ لاوعيه ــ يرسم فوق أغلفة المقالم.. شجرة سرو، أسفلها يجلس عجوز ملفوف بعباءة وحول رأسه عمامة تشبه عمامات نُسّاك الهنود، وأمامه فتاة تنحني لتقدم إليه أحد الأزهار، وبينهما جدول ــ كل هؤلاء يتبادلون الأدوار، كانعكاس لروح البطل ولاوعيه.. فسيضحك ضحكة العجوز المرعبة نفسها، ويقتل بسكين القصّاب نفسها، وفي الأخير سيصبح هو وجثة الفتاة/الزوجة كالجسد الواحد، الذي لا يستطيع أن يُفرّقه أحد. هذا العالم كان لابد من رؤية تستطيع أن تصيغه أو أن ينتظم حولها، رؤية أشبه بلوحات السرياليين، تتوالد في عدة مشاهد أو حالات أعنفها القتل، وأرعبها الوحدة في مدينة الأموات.. «وفجأة وجدتُ نفسي في ممرات مدينة غير معروفة، ذات منازل غريبة وعجيبة على أشكال نماذج هندسية، مناشير ومخروطات ومكعبات، وذات نوافذ منخفضة ومظلمة، وكانت الأبواب مُغطاة بأزهار النيلوفر. كنتُ أتجول بحرية وأتنفس بسلام، ولكن سكان المدينة جميعاً كانوا قد ماتوا ميتة غريبة، كلهم تجمدوا حيث كانوا، ونقطتان من الدم سقطت من فم كل منهم لتصل إلى ملابسه، وكانت رأس كل واحد ألمَسُه تقتلع وتسقط إلى أسفل».
هذيانات الإيمان والموت
وكما ينوء الواقع بثقل الخيال ــ كصورة من صور أخذ البطل بالثأر ــ يتجلى ثِقل الإيمان في مواجهة الموت، ويصبح العقل هو مجال الصراع، الذي سريعاً ما يسقط ويستسلم لحالة من الهذيان/التغييب.. «كنتُ أميل إلى التحدث مع صديق أكثر من ميلي إلى التحدث مع الله القادر المتعال، لأن الله كان أعظم مما يحتمل رأسي». هذا الرأس الذي لم يعد صاحبه يحتمل القدرة الكلية/المُطلق، أصبح يبحث عن صيغة خلود إنساني، نابعة من موقف وجودي، عليم بنقائصه مؤمن بالفناء، وهو ما يُناقض كل مواقف ومعتقدات الآخرين/الجحيم أو الأوباش كما يطلق عليهم هدايت.. «ليس كتاب الأدعية فحسب، بل كل كتب الأوباش وكتاباتهم لا تهمني، أي حاجة لي بترهاتهم وحيلهم؟ .. لم يحدث لي في أي وقت مضى أن أحدث المسجد وصوت الآذان والوضوء والمضمضة والركوع والقيام أمام قادر متعال وصاحب اختيار مُطلق ينبغي أن نخاطــــبه بالعـــربـــية، لم يحدث ذات مــــرّة أن كان لكل هذا أثر فيّ».
هؤلاء الأوباش هم الذين يصوغون المطلق وفق أهواء مخيلاتهم الميتة ونفوسهم الضحلة، فلا معنى إذن لكل ما يحدث وما كان وما سيكون، أي قيمة ومعنى لهذه الخرافات أمام الموت… لم أكن أريد أن أعرف هل الله موجود في الحقيقة، أم أنه فقط مظهر لأصحاب السلطة على الأرض، جعلوه لتثبيت مقام الأُلوهية من ناحية واستغلال رعاياهم من ناحية أخرى/صورة انعكست من الأرض إلى السماء/كنتُ أريد أن أعلم فقط هل سأصلُ النهار بالليل أم لا؟ كنت أحس أنه في مواجهة الموت كم يكون الدين والإيمان والعقيدة أشياء طفـــولية وتافهــــة وتقريباً نوع من العزاء للناس الأصحاء السعداء.
وفي مواجهة حقيقة الموت المخيفة والحالات المذيبة للروح التي اجتزتها، صار كل ما لقنوه لي بالنسبة للثواب والعقاب والروح ويوم القيامة خداعاً لا طعم له».
حالة القداسة الوحيدة تتجلى في روح البطل، وتكمن في الاحتفاظ بجسده، أو حتى ذراته بعد الموت بعيداً عن الآخرين، هذا الجسد الذي يسعى لتدميره طوال أحداث الرواية، والمعزول عن الآخرين، ولا يلتحم معهم إلا في حالة واحدة، بأن تصبح امرأة خياله جثة، حتى تليق بهذا الجسد.. «مرّات كثيرة كنتُ أفكر في الموت وفي تجزئة عناصر جسدي، بحيث أن هذا التفكير لم يعد يخيفني، وعلى العكس رغبتُ رغبة حقيقية في أن أعدم وأفنى، الشيء الوحيد الذي كنت أخشاه أن تختلط ذرّات جسدي بذرّات أجساد الأوباش، كان هذا الشيء غير محتمل بالنسبة لي».
لم يحتمل هدايت وبطله هذه الحياة، وكان يرفض تماماً تصوّر حياة أخرى بعد الموت، التعلق كان بأمل وحيد هو حالة العدم .. «إن ما كان يبعث فيّ العزاء هو الأمل في العدم بعد الموت، كانت فكرة الحياة بعد الموت تخيفني وتصيبني بالملل، أنا حتى الآن لم أكن قد آنستُ إلى هذه الدنيا التي كنت أحيا فيها، فبماذا تفيدني الحياة الأخرى؟ .. أليست الحياة بأكملها قصة مضحكة، أسطورة حمقاء لا تُصدق!». انتحر صادق هدايت بالغاز في باريس في 9 أبريل/نيسان عام 1951.
محمد عبد الرحيم