الحياة صناعة
[wpcc-script type=”c731071eaf04eecc618aed10-text/javascript”]
يرى العالم الموسيقى منذُ معرفته بتأثيرها، على أنها حاجة ودلالة حضارية وفاعلة في التغيير نحو الأفضل، بل وعامل مساعد على صنع حياة متوازنة. على هذا الأساس قامت صناعة كاملة حول الموسيقى يعمل داخلها ملايين الأشخاص في كل مفصل من مفاصلها المتشعبة والكثيرة.
بعض الدول نالت مكانتها الحضارية من خلال تبنيها لمؤلفين كبار أمثال، موتزارت وشوبان وغيرهما ممن كانت بلاطات الملوك تتفاخر بتواجدهم في أزمانهم، بل إن بعض الملوك في أوروبا صاروا أقطابا جاذبة لأمهر الموسيقيين من كل أنحاء أوروبا، والبعض الآخر كان يجيد عزف آلة أو أكثر. بهذا الاهتمام ارتفع شأن الموسيقي والموسيقى والتنافس لصالح جودة الأعمال الموسيقية وبالتالي لصالح الجمهور.
عربياً لم يكن الأمر مختلفا كثيراً، بل نوع الموسيقى والمنتوجات هو ما كان مختلفاً. أما الدعم فقد وصل لمرحلة مهمة جداً لدرجة فتح مقار سميت معاهد للموسيقى، يأتي لها الدارسون من كل مكان، وتهتم بمستوى العلوم الموسيقية لحد كبير جداً، حتى وصلت الى تأسيس أوركسترا تتجاوز المئة عازف فترة إبراهيم الموصلي، وعندما تشتري جارية بمبلغ زهيد يبعثها سيدها إلى الموصلي لدراسة العزف والغناء، وعندما تتميز وتتكون تبدّل بوزنها ذهباً، هكذا يرى العرب أهمية التحصيل العلمي في كل المجالات ومنها الموسيقى، التي تجعل حياتهم مختلفة تماماً عما كان سائداً. تبدلت الأحوال والثقافات والدول وبقيت الموسيقى الشغل الشاغل للكثيرين، حتى أصبحت في الكثير من الدول العربية والآسيوية والغربية وغيرها مادة في المناهج الدراسية وفي مختلف المراحل.
وأنا أكتب هذه السطور تذكرت شغفي بآلة العود عندما دخل معلم النشيد حاملاً الآلة على صدره، ورغم حجمها إلا أن وزنها لا يتعدى الثمانمئة غرام، وله كل ذلك التأثير على أسماع أطفال بعمر العشر سنوات، ولولا توفر معلم موسيقي في المدرسة ربما ما سنحت لي فرصة تعّلم الموسيقى وغيري من التلامذة. أدرك اليوم تماماً أن الموسيقى أهم حدث حصل في حياتي وغيرني تماماً وجعل مني إنساناً صافياً، لذلك دوماً أنشرها وأعلمها وأنصح الجميع بتعليم أبنائهم أهميتها الحقيقية في بناء نفسي سليم للإنسان، خصوصاً في بداياته وتكوينه.
اليوم عندما أرى اختلافات جوهرية في سلوك إيجابي لدى بعض الشعوب دون غيرهم، أبحث فوراً عن الجانب الثقافي ودوره في تكوينهم وتميزهم، أجد أن أهتمام ذلك البلد بالموسيقى والفنون هو السبب الرئيس في سمو أخلاق شعب دون غيره، ومثالاً على ذلك اليابان الذي جعل تعّلم الموسيقى إلزامياً في مراحل الدراسة، ترافقها مادة الأخلاق التي صنعت نموذجاً متفرداً مع العلم لتصبح اليابان على ما هي عليه. عربياً انخفض مستوى تعليم الموسيقى إلى أدنى معدل ليّحل محلها التطرّف والبغض والعنف والعنصرية أي كل ما تطرده الموسيقى من النفوس بشكل فاعل.
لذلك قالها قبلي الكثيرون، إن الموسيقى حاجة وليست ترفًا ومتعة، ولو أخذنا الأمر ببساطة وتذكرنا لحظة سماعنا لعمل موسيقي أو غنائي نحبه ماذا يحصل لنا؟ بماذا نفكر؟ سنجد أننا كنّا في لحظة سلام حقيقية والوجود حولنا كله محب وآمن، ولن يتبادر لأذهاننا سوى الجمال والمحبة والإنسانية والهدوء، وهذا الفعل ندركه بدرجات متفاوتة في معرض تشكيلي مهم أو رواية لكاتب أو في قصيدة لشاعر خلاّق. العالم تحوّل للعنف وكثرت النعرات فيه لانعدام مستويات التعليم وتدني الثقافة العامة، وتم تحييد العقل لمصلحة القوة، وهذا سيستمر إذا لم نواجهه بحكمة ورؤية إستراتيجية لبناء جيل سليم العقل والروح ويملك الوعي الكافي عبر ترسيخ الثقافة والفنون، لتصبح تقاليد وسلوكا وأخلاقا وتعاملا ولغة مجتمع، وهذا يحتاج على الأقل إلى خمسة عشر عاماً من العمل، لتتضح تأثيراته على المجتمع وسلوكه. يقول أحد كبار علم الأعصاب أوليفر ساكس «إن الموسيقى تحتل مناطق في الدماغ أكثر من تلك التي تحتلها اللغة» وبذلك ينعكس تأثيرها الحقيقي على سلوك الإنسان، كونها تعيش في الدماغ وتعمل من هناك. الكثير من الناس يعيشون بدون موسيقى وبدون فنون ويعيشون حياة جيدة، هذا في ظاهره صحيح لأن فاقد الشيء لا يشعر بقيمته، ولكن الأشخاص ذاتهم كان من الممكن جداً أن يكونوا أفضل بكثير مما هم عليه لو أمتلكوا محفزات الموسيقى.
وثبت ذلك بتجارب علمية مختبرية على دماغ الموسيقي والمستمع والنشاط الذي يعيشه العقل أثناء سماع عمل موسيقي متقن، والكثير يرى في موسيقى موزارت الأكثر تأثيراً على نشاط معدلات الذكاء، أما الحكمة فنجدها تترسخ أكثر لدى سماعنا باخ وبتهوفن، وتتسع مساحة الخيال لدى المستمع لموسيقى جايكوفسكي. عربياً أيضاً نجد الموسيقار السنباطي له هيمنة على العقل في معظم أعماله الغنائية لتماسك قدرته الذهنية المنظمة التي أسست معماراً للقصيدة الغنائية. وفي عالم العود نجد الراحل منير بشير أيقونة العود له معالم في بناء ارتجالاته تساعد كثيراً في تنظيم العقل وسكينة الروح، وتدعو إلى التأمل العميق. الأمثلة عن الموسيقى كثيرة لكن الحديث عنها لن ينتهي كونها حاجة حقيقية. وندعو بقوة ومعرفة لنشر تعليمها عبر رياض الأطفال وكل مراحل التعليم.
٭ موسيقي عراقي
نصير شمه