الدبلوماسي البريطاني كارن روس في «الثورة بلا قيادات»: أفكار تطهيرية نابعة من خيبة الأمل
[wpcc-script type=”9e578e208d8f73aa5eeddd0c-text/javascript”]
«أثناء الربيع العربي ألتقيتُ محتجاً شاباً من مصر، سألته عن سبب احتجاجه وما يريده، فأجاب أنه أراد وضع حد للحكم القائم، غير أنه لم يكن يريد ديمقراطية شبيهة بتلك الموجودة في الغرب. أفادني أن تلك ليست ديمقراطية حقيقية، فقد سبق له أن رأى كيف جرى مسخ الديمقراطية المزعومة في الغرب وتحويلها إلى أداة لخدمة مصالح فئوية وجماعات ضغط معينة، ثم ما لبثت أن باتت مهددة بخطر الوقوع في أيدي دجالي اليمين. كان الشاب راغباً في ديمقراطية حقيقية، في حكم للشعب من أجل الشعب وفي خدمته. واليوم وأنا عاكف على الكتابة يقبع هو في السجن». بهذه العبارات يفتتح كارن روس رئيس قسم السلام في الشرق الأوسط الأسبق في وزارة الخارجية البريطانية، في مؤلفه المعنون بـ «الثورة بلا قيادات .. كيف سيبادر الناس العاديون إلى تولي السلطة». والصادر في العام 2011 والصادرة ترجمته مؤخراً، ضمن سلسلة عالم المعرفة. هذا الدور الخطر الذي لعبه الرجل، يرى نتائجه الآن، ويحاول بعد استقالته من منصبه أن يبقي على الظِل الإنساني، دون أن يعفي نفسه من المسؤولية عما حدث: «عاجز أنا فعلا عن الاهتداء إلى ما يخفف وطأة العار الذي أشعر به، كنت على علم بتقارير المعاناة الإنسانية، غير أني لم أفعل شيئاً ذا شأن للتصدي لها، يدور هذا الكتاب حول نمط جديد من السياسة، خرج من رحم خيبتي المطلقة من الحكم الديمقراطي المزعوم، الذي سبق لي أن عملت في خدمته».
وهم التحكم في العالم
يرى روس أن مشكلات العالم اليوم أصبحت أكثر تعقيداً وتشابكاً، وليس في مقدور أي حكومة أو نظام سياسي أن يتنبأ بما سيحدث، فحالات الاضطراب المتصاعدة تؤدي إلى حفز الحكومات على إحكام قبضتها أكثر، بهدف الحفاظ على وهم التحكم والسيطرة والضبط، ولا سبيل لها في ذلك ـ الحديث عن الحكومات الموسومة بالدمقراطية- سوى مراقبة نشاطات مواطنيها أكثر، سواء على الإنترنت أو في الشارع. لكن من الممكن أن يحدث فعل عرضي بسيط يقلب الأحداث، والاستشهاد هنا بحادث محمد بوعزيزي وما أحدثه من زلزال «الربيع العربي».
أفكار المؤلف وطموحاته
«بالنسبة إلى أكثرنا ليست السياسة إلا رياضة، فرجة، نحن نشاهد، هم يفعلون». يسرد المؤلف أربعة أفكار يدور حولها الكتاب، أولها، أن من شأن تحرك فرد واحد أو جماعة صغيرة أن يحدث تأثيراً كبيراً في مُجمل النظام القائم، والذي يبدو من بعيد مترابطاً إلى حدٍ كبير. يعوّل المؤلف على شبكات التواصل الاجتماعي الأمل في الحشد والتثقيف، وهي بدورها تحمل بذرة الفعل، فلا انتظار الحل من عند النظام سيجدي نفعا، ومنه يصبح الفعل معقوداً على مدى قوى التواصل، وأن تتحول المناقشات والتوافقات إلى أفعال على أرض الواقع. ومنه إلى نقطة أكثر واقعية وهي الترابط والنقاش، لا من خلال أحزاب كاريكاتيرية أو جمعيات وما شابه، ولا حتى انتخابات برلمانية، ولكن عن طريق الفئات الأكثر تأثراً بالمشكلات الراهنة، الأمر أشبه بالعودة إلى الديمقراطية في أنقى صورها، كما مثلها النموذج اليوناني، مع الأخذ في الاعتبار سمات عصرنا الذي نحياه. لتأتي الفكرة الرابعة والأخيرة كمحصلة لما سبق، وهي سلطة حسم الأمور، التي ستعمل على التغيير في أسرع وقت، وسنشهد أثرها على الأرض، دون انتظار لقرارات الصفوة، أو أملاً في أن تتدخل السماء في الوقت المناسب.
بعيداً عن العنف
ينفي المؤلف شبهة المبادرات العنيفة للإطاحة بالسلطة، وتحت مُسمى «الثورة اللطيفة» يستعيض عن العنف بقوة القناعات والأفعال. وإلى إقامة نظام بديل يبدأ بخطوات متتالية، التكلم مع الجيران والالتفاف حول الهواجس والمطالب المشتركة، حُسن الاستماع وقبول الآخر، وخلق مساحات من النقاشات، ومحاولات التقارب أكثر، وتأسيس منابر لمناقشات القضايا العامة، ذلك بعيداً عن النقابات والاتحادات العامة، التي أصبحت خاضعة أكثر لرقابة النظام، ومغلولة اليد عن أي فعل. كل ذلك مشروط بعدم الخوف، الخوف من الآخر ومن السخرية والإخفاق، هذا الخوف الذي تعوّل عليه السلطة في استمرار وجودها.
تجربة غاندي
يستدعي المؤلف تجربة غاندي ومسيرته السلمية، والتي أربكت بريطانيا وقتها، وكيف تمثلت الوسيلة في أن تكون هي الغاية نفسها، كحل سلمي. لكن الظرف السياسي وقتها، وبعد سبعة عشر عاما، نالت الهند استقلالها جرّاء الحرب العالمية الثانية وتبعاتها، كعامل أكثر أهمية لوضح حد للحكم الأمبريالي في الهند. فالأمر في الأخير أشبه بنضال اجتماعي والمعركة الثقافية في المقام الأول.
عن الفوضى والسلطة الغائبة
يحذر الجميع من الفوضى، وغياب المؤسسات كالقانون والجيش والشرطة، وإلا سيغرق المجتمع في حروب لن تنتهي، إلا أن الغضب الشعبي الحقيقي يتأتى من استفزازات السلطة وحكوماتها، والادعاء الدائم بالعمل لصالح غالبية الفئات ــ وقت الثورة المصرية وأيامها الجليلة لم تكن هناك مؤسسات، ونجح الشعب في تحمّل المسؤولية كاملة في حفظ الأمن والنظام، فالوجود الاعتباري للدولة قد سقط رمزياً، وأصبحت للمرّة الأولى مصلحة المواطن تماثل مصلحة الدولة ـ ففكرة الفوضى وتبعاتها أحد أسلحة النظام أيضاً، وأداته التي يحركها ضد الشعب، إذا ما فكر لحظة في هدم وإسقاط هذا النظام، الذي لا يفرق بين وجوده ووجود الدولة.
ألعاب التنمية البشرية
يخطو المؤلف في الفصل المعنون بـ «تسعة مبادئ لريادة التحرك» خطوة أخيرة في مؤلفه الطوباوي ــ رغم نفيه ذلك ــ بأن يسرد مجموعة نقاط يتم التعامل من خلالها مشفوعة ببعض الأمثلة، وهي على الترتيب: عيّن اقتناعاتك، دراسة المشهد قبل الإقدام على الفعل، تصرّف كأن الوسائل هي الغايات، استلهم المعايير الأممية، خاطب الأكثر معاناة، تشاور وتفاوض، أفعال صغيرة لصورة كبيرة، وظف اللاعنف، كش ملك أو الإجهاز على ملك الخصم.
ورغم استخلاص بعض العناوين والمسميات من خلال بعض التجارب، إلا أن صياغتها واعتمادها حلولاً عملية لزحزحة السلطة وإحلال سلطة شعبية بدلاً عنها، يعد أمراً بعيداً عن الوقائع ومنطقها، مما يوحي بأنها أشبه بالدروس الموهومة التي يطالعنا بها مدعو وأفاقو التنمية البشرية، على سبيل (قوم الصبح بدري قبل أي حد، وأقف قدام المرايا وقول: أنا كويس).
٭ كارن روس، دبلوماسي بريطاني سابق، ترأس قسم السلام في الشرق الأوسط في وزارة الخارجية البريطانية، ومحرر خطابات لوزير الخارجية البريطاني. تفاوض مع دبلوماسيي صدام حسين في الأمم المتحدة، وعمل في أفغانستان بعد سقوط طالبان. استقال احتجاجاً على أكاذيب الحكومة البريطانية في حرب الخليج عام 2003. يدير الآن منظمة «الدبلوماسي المستقل» وهي هيئة مستقلة غير ربحية، تحاول التواصل مع القضايا السياسية، بعيداً عن سلطة الدول والحكومات.
كارن روس: «الثورة بلا قيادات … كيف سيبادر الناس العاديون إلى تولي السلطة»
ترجمة، فاضل جكتر
سلسلة عالم المعرفة، الكويت مارس/ آذار 2017
252 صفحة.
محمد عبد الرحيم