الدورة الـ 13 لمهرجان الشباب المبدع في القاهرة: العرض المسرحي «بلا مَخرج»: جحيم «سارتر» ومشكلة الوجود التي لا تنتهي
[wpcc-script type=”053bad21e66f4e0e1c480d83-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: خلال عروض مهرجان الشباب المبدع، الذي يُقيمه المركز الثقافي الفرنسي في القاهرة، في دورته الـ 13، قدمت فرقة «صوفي» المسرحية، عرضا بعنوان «بلا مَخرج» عن نص «جلسة سريّة» لجان بول سارتر، يجسد فلسفته الوجودية ورؤيته للعالم والفرد في المقام الأول.
قام بأداء الأدوار كل من محمد حفظي، نورا عصمت، داليا رمزي، ومصطفى سالم، ومن إعداد وإخراج أحمد فؤاد. ربما يُعد هذا النص من أقرب النصوص المسرحية وأكثرها تكثيفاً لأفكار سارتر الفلسفية، التي طالما أكد عليها من خلال نصوص مسرحية أخرى.. كـ»الذباب» على سبيل المثال، أو نصوص روائية أهمها رواية «الغثيان». ليطلق سارتر عبارته الشهيرة بأن «الجحيم هم الآخرون».
سيرك الجحيم
«جارسان: حسنا .. أين الكلّابات وأدوات التعذيب؟
الخادم: نعم؟ عذراً سيدى
جارسان: ألسنا فى الجحيم؟
الخادم: عذراً سيدى، يبدو أنك تقرأ قصصاً خيالية كثيرة، فلا أحد جاء هنا ورجع ثانية ليحكي».
الأمر يبدأ بما يُشبه اللعبة، وتبدو ظاهرياً أنها اختيارية.. رجل وامرأتان في حجرة مغلقة، لا يدرون فعلتهم حتى يأتون إلى ما يشبه السجن. حجرة فيها ثلاثة مقاعد وباب حديدي يُغلق عليهم، قد يبدو المكان كالسجن أو فندق منعزل، خاصة أن وهم وجود أدوات تعذيب يثير سخرية الخادم الذي يأتي بهم تباعاً، لا يدرون فعلتهم، ويتمثلون فضيلة ستسقط تحت وطأة الوحدة وانتظار أي شيء.
سارتر يرى المشكلة في الإنسان ووجوده وماضيه، وهو ما سيرسم مُستقبله، وهو على العكس من بيكيت، الذي لا يرى جدوى مما يحدث، ولا جدوى من الانتظار، ليتخذ من نهج العبث الفني معادلاً لعبث الواقع.
فذكريات الشخصيات هنا تكشف عن مصيرها واستحقاقها حالة الوحدة الدائمة، لا حياة ولا موت، كما أن باب الحجرة ليس مُغلقاً كما يتوهم خيالهم، وإن واتتهم الفرصة للهرب لن يستطيع أحدهم فعلها، فالهرب أصبح من الذات، ولا مفر إذن، هذا هو الجحيم الذي اختاره سارتر لشخوصه، كل منهم سُلّطَت عليه ذكرياته، ويصبح الآخر المُتلقي لها هو جحيم صاحب الذكريات.
الأمر أصعب من ثنائية الحياة والموت والنور والظلمة، هذه الثنائيات الموهومة والمقدسة التي أصبح الإنسان يبرر بها أفعاله، فالجحيم ــ وهو لفظ يحمل مدلولاً دينياً منذ القِدم ــ لم يعد نيرانا تحرق الأجساد، ولا تصاوير الهلع في الكتب المقدسة، الذات وأفعالها هما الجحيم، والآخر الذي تسبب في الفعل أو شارك به هو المتفرج الوحيد والناصب لسيرك الجحيم الأزلي.
الشخصيات وأماكنها
رغم المكان التغريبي إلى حدٍ ما في النص، والأكثر تجريداً في العرض المسرحي، إلا أن استحضار أماكن الشخصيات كان هو المؤثر والمُحرك في سرد ذكرياتها، شخص موصوف بالجُبن ــ هرب من الحرب كجندي وتم إعدامه ــ وامرأة لا تستطيع إقامة علاقة سوّية مع رجل، وتخلصت من عشيق صديقتها حتى تنفرد بها، وأخرى أقامت علاقة مع آخر وقتلت طفلتها برميها في النهر، مما جعل عشيقها يطلق النار على نفسه.
شخصيات تحمل ذكرياتها القذرة وأفعالها الشنيعة، ليبدأ كل منهم سرد سبب ضمن عدة أسباب للمجيء إلى هنا، كقول جارسان مثلا «أنا هنا لأنني عاملت زوجتي بطريقة شنيعة، هذا كل ما هناك لمدة خمس سنوات وبالطبع هي ما زالت تعاني، في اللحظة التي أذكرها فإنني أراها»، ولترد المرأة التي أصبح تحت رحمتها حتى لا يظل وحيداً معزولاً، فهي كاشفة جحيمه «سنمكث في هذه الحجرة معا ثلاثتنا إلى الأبد».
الاعتراف هنا يتعدّى فعل التطهير ــ كما في عبارات أرسطو النقدية في فن الشعر ــ إنه سرد لتاريخ القذارة، الذي ستحمله كل شخصية في هذه الحجرة إلى الأبد، فهم أموات من الأساس، ولا يوجد انتظار لجديد.
العرض المسرحي
بدأ العرض المسرحي بتجريد شديد على مستوى الديكور والإضاءة، التي لم تستخدم إلا في حالات قليلة ــ استخداماً درامياً ــ فالمرأة التي تريد رؤية وجهها في المرآة، حتى تشعر بوجودها في عالم الجحيم هذا، تخبرها الأخرى بأن عينيها هي المرآة، ولو أغلقتهما لاستحالت إلى عدم، هنا تنعدم الإضاءة تماماً، فقط وجه صاحبة العين هو المضيء وسط طوفان العتمة هذا.
لكن لم يتم الأمر على هذا المنوال طوال العرض، وكأن الإضاءة ــ وهي أحد أهم أدوات العرض المسرحي ــ قد تم تناسيها في العديد من الحوارات والجُمل والمواقف بين الشخصيات، التي لابد من خلق معادل درامي لها، بخلاف وقفات الممثلين وتعبيراتهم الجسدية، وحركاتهم على خشبة المسرح، التي قاموا بها في حِرفية شديدة.
حاول المخرج ألا يشغل المتفرج بأي شيء خارج كلمات الشخصيات وانفعالاتها، التي جاءت مُبالغة في بعض الأحيان، وبالتالي لم يجد الممثلون سوى تعبيراتهم الجسدية وحركاتهم، مما جعل ثقل العرض بالكامل يقع على التلوين الصوتي والجسدي للمثل، وهو اختبار يضيف صعوبة أخرى إلى صعوبة النص ذاته. لكن اختيار نص مثل هذا له دلالته الفكرية والفنية بالطبع لدى صاحب العرض المسرحي، فأي حرية يريدها الإنسان من دون أن يكون مسؤولاً في المقام الأول عن أفعاله، إنها فكرة تكاد تماثل في الثقل فكرة نيتشه عن العود الأبدي.
محمد عبد الرحيم