الذكـرى سقطُ متاعِ الحرب!
[wpcc-script type=”3dd475788087f9a3f8f6babd-text/javascript”]
حربي الأولى مع النسيان: كيفَ نسيتُ السكينَ قربَ يَدكِ المشلولةِ ولم أنتبهْ أنَّ السكينَ أداةُ قتلٍ ولها حَظوةٌ في سوقِ الحربِ القديم!
حربي الثانية معَ وجهكِ: كيف ابتهجَ شاشهُ الأبيض في المشفى، فشفَّ حتى صار بلورا، مرّقَ كلمةً أخيرةً عن الموت ولم يمت! أعرفُ وجهك المضيء في الحكاية من قبل، كانَ كلما سردَ قصة عن حاله، تفرّ غابةُ عصافير نحوي، فأتلفّع بها وأنام، كانت تلك طمأنينة، تشبهُ يدَك الغيمةَ على أقلِ حسبان.
حَربي الثالثة معَ العطر: كيف أجدُ عطاراً واحداً، يجمعُ كلَّ الأعشاب الضارة والنافعة في قارورة واحدة، يعدُّ سُمّاً ويسميهِ عطرا، الدنيا لا يستقيمُ حالها بلا أبطال ينهونَ حياتهم، إذا خرجت أنثاهم من بابِ الحياة الخلفي إلى حتفها، والدنيا ليست دنيا بلا هذا السُم الذي هو العطر نفسهُ، وإلاَّ فما نفعُ أن يكونَ البطل بلا يدِ البطلةِ، سواءً في الأفلام أو في حديقةِ الحياة الكبيرة.
وجودُ العطار النادر هذا نعمة وسمهُ العطر لا الزعاف بهجةٌ أصيلةٌ، كيف لا وأنت تموتُ مطمئناً بيد رحيمةٍ وبلا آلام، تشبهُ آلامَ المخلّص.
حربي الرابعة مع البيت والشارع والأزقة والحارات وأولاد الجيران وبناتهم والباعة المتجولين وسائقي السرافيس وأخيراً مع البلد، أي بلدٍ كانَ يعضني، وينشب أسنانه في روحي، وكنتُ أجدُ الحياة مستحيلة بلا هذهِ الوشومُ العميقةُ والأسنانُ التي علقت بي.
لم آتِ على ذكركِ، لأنكِ الذكرى، وكيفَ أسردُ عمراً كاملاً من الحركة معَ أشياءَ جامدة ولا روح فيها، كأن أذكر تابوتاً بنياً وخاماً أبيضَ وكتاباً دينياً للأناشيد، حتىَ الأطفالَ الذين رتلوا من الكتاب لتهدأ روحُك في الملكوت، صاروا أشكالاً من الشمعِ، وأرواحهم طارت إلى المقبرة القريبة، هذي حالُ الحرب/ نعم هذه حالُها، باهتةٌ وطويلةٌ، أعني الحرب التي أخذتكِ، وسقطتْ عن حصانها في حضنِ النار المدنسة!
حربي الخامسة مع صانعي الفجيعة أبي وأمي، ومع شركائي أخوة الدمِ والتراب، كنتُ تعلمتُ الحياة منهم حتىَ وقتٍ متأخرٍ – حياة ليست بائسة على أقل تقدير – ثمَّ حلَّ الغمامُ بي وبهم، فما عدتُ أميزُ وأنا أتجاوزُ البابَ المواربَ: هل الداخلُ أنا أم الخارجُ؟! قال لي أبي: الحياةُ معلمُك الوحيدُ وكذبَ، وقال لا تجزع من أمر عليك كان مكتوبا وجزعتُ، حتى أني ذممتُ نطفتهُ وبويضة أمي، وتمنيتُ على سائله لو ذهبَ في تجويف آخر وبويضتها لو فسدَتْ.
في الحربِ الكبيرة كالقيامة، تذهلُ الأم عن مرضعها، والأبُ يكتبُ أغنيةً عن الخسارات، أمَّا أنا المتبرّم كثيراً من واقعٍ بلا يدِك، فإنَّ البلد يكونُ ضيقاً، ذلكَ البلد الذي عبّر قيامته، ولا يعبّر الآنَ إلاَّ ناراً كبيرة… كبيرةً عليَّ وعليكِ وعلى النشيدِ المدرسي، طالما تغنى بالأهدافِ النبيلةِ لوجودنا على قيدها. تلكَ التي تُسمى حربا لا عدالة فيها، العدلُ أن تكوني هنا وليس هناكَ. أبداً… أبداً الجحيم هناكَ.
حربي السادسةُ معَ الشارع، الشارعُ الذي يُفضي إلى بيتك وماتَ سريعاً عندما لمْ تَدبَّ عليه خطوتُكِ المثقلةُ بالأرواح المقدسة، الشارعُ بضفتيه وقد تداعت عليهِ الأبنيةُ والناس، ضاق ذرعاً بهم وبي، وكيفَ لا تَسوّد الحياةُ بعينيه وكانَ إلى البارحةِ يرى أطفالاً يلعبونَ بالكرةِ وإناثاً يسبقهنَّ العطر، وتتبعهنَّ ألسنةُ الشهوةِ، وأشجاراً تحفظُ الأسرار، وأغاني كانت تعبر مسرعةً كالسيارات، وتلويحاتِ وداعٍ، وقُبلاً سريعة، وأشياءَ أخرىَ، أقلّها أنيَّ طويت الشارعَ/ شارعكِ في محفظتي ككفن، وسافرتُ بهِ عبرَ كُل هذي الحدود بأسلاكها الشائكة وألغامها وغاباتها وفخاخها الكثيرةِ للحيوان والبشر. الشوارعُ مثلُنا لها ذاكرة، ومَن يريدُ أنْ ينكّل بها ليخرّبَ ذاكرتها أولاً وأخيرا.
حربي السابعةُ، حربي الأخيرةُ، مثلُ الحربِ التي تَدورُ رَحاها هناك، وتَطحنُ الذكريات مع ما تطحنُ، لستُ بواردِ الحديثِ عنها، كيفَ تَتحدثُ عن وحشٍ يَسكنُك، يَسدُّ فمَكَ من الداخلِ، والكلمةُ التي ستخرج – فيما لو خرجَت – أشبهُ بالنارِ التي أكلَت وما زالت تأكلُ أبناءَها وأبناءَ التراب.
حربي معي، وأنا نِدُّ أنا، نَحوا أسلحتكم جانباً، أريدُ نزالاً عادلاً اليوم، فأنهي ما بدأتهُ بالنسيان وما انتهيتُ إليهِ وأنا أغمدُ حكايتي معكِ في صدري وإلى الأبد، إذ كيفَ تركتُ السكين/ أداةَ الحرب قربكِ، ولم أتنبّه للذكرياتِ التي حاولت جاهدة إيقاظي، لأمنعَ هذا الموتَ المفاجئَ لكلّ هذا البلد الذي أنتِ/ الطويلةُ والبارعةُ والذاهبةُ إلى الينابيعِ. كم أنا قاتلٌ وسَفاحُ ذكريات!
شاعر وناقد سوري
محمد المطرود