«العائش في السرد» لرضا عطية… رؤية وتأويل لتقنيات وجماليات عالم نجيب محفوظ
[wpcc-script type=”ba488655bc37c8c6ccdde26c-text/javascript”]
القاهرة ــ «القدس العربي» : لم تزل أعمال نجيب محفوظ توحي إلى الكثيرين من النقاد وتحفزهم على الكتابة، ولم تزل هذه الأعمال قادرة على أن تكشف عن جمالياتها عبر المناهج النقدية الحديثة، والروح النقدي للجيل الجديد من النقاد.
وربما يدور التساؤل للوهلة الأولى، ماذا ستضيف الكتابة النقدية إلى عالم نجيب محفوظ؟ وهل يستمد الناقد الكثير من الأمان عند التعرّض إلى أعمال الكاتب؟ وهل لإضفاء قيمة ما، وأهمية لما يخطّه الناقد عن عالم روائي وقصصي راسخ؟ السؤال الآخر بالتبعية هو مدى صعوبة الرؤية المختلفة لأعمال تأسس عليها أكثر من مشروع وصوت نقدي؟ ويبدو أن المؤلف رضا عطية فطن لصعوبة الأمر، فصدّر مؤلفه بالتساؤل «ماذا يبقى من نجيب محفوظ؟». فكان عليه أن يجيب خلال صفحات كتابه، المعنون بـ»العائش في السرد»، وهو عنوان يحيل إلى رواية لمحفوظ بعنوان «العائش في الحقيقة».
بحث المؤلف عدة قضايا سردية، كان الاهتمام الأكبر من خلالها هو الكشف عن التقنيات التي كتب بها محفوظ بعض أعماله، كذلك مجاهدات تأويلية لدلالة ورموز هذه الأعمال، ومن خلال انتقاءات الناقد تبدو محاولة لاستكشاف مراحل كتابات محفوظ وارتباطها بسياقها الاجتماعي والسياسي والنفسي، فالأدب لا ينتج من فراغ. فمن تعدد الأصوات كما في روايتي «ميرامار» و»يوم قتل الزعيم»، وحتى الكتابة عبر النوعية في أحلام فترة النقاهة، تبدو رحلة محفوظ التقنية والجمالية، رحلة حياة بالفعل اختلقها محفوظ وعاشها من خلال السرد.
عالم الرؤى والأمنيات
سنبدأ بالفصل الأخير، والمعنون بـ»الحديقة الخلفية لنجيب محفوظ»، حيث يتعرض الناقد إلى كتاب «الأحلام الأخيرة»، وهو الجزء الثاني والأخير من «أحلام فترة النقاهة»، الصادر عام 2015 ــ بغض النظر عن اللغط الذي دار حول الكتاب ــ يحاول الناقد التحاور مع رموز الحلم وتفكيكها، وصولاً إلى اكتشاف أمنيات الحالم/الراوي، مؤكداً أنها في الغالب رؤى أكثر من كونها أحلاما. والكتابة هنا تتجاور ما بين الشكل الحواري أو الشعري والنثري، كذلك بعض الأغنيات الشهيرة الدالة، التي تؤكدها ذاكرة الحالم، فلا فارق ما بين حلم وواقع، انمحاء حدود الكتابة يرافقه انمحاء حدود العوالم المتباينة. إشارة أخرى يبديها الناقد تتمثل في فكرة العودة إلى الطفولة أو البيت القديم أو الأصل، ومحاولة تجاوزه، سواء بالطيران والتحليق في السماء، أو تحويله إلى بيت عصري جديد، وانتظار ما سيسفر عنه ذلك. هي رؤى بالأساس، ويبدو أن صيغتها المكثفة تكشف مسيرة أفكار محفوظ، وما حاول التعبير عنه طوال رحلته الإبداعية.
نصوص متفرقة وبنياتها الكاشفة
وفي مجموعة «صدى النسيان» الصادرة عام 1999، التي ضمنها محفوظ قصصاً لم تُجمع من قبل في كتاب، رغم التفاوت الزمني لكتابتها، يحاول الناقد عبر بنياتها اكتشاف هيكلها السردي العام، وهو ما أطلق عليه (السرد الحلقي)، لتكرارات ثابتة في نصوص المجموعة، على مستوى الزمان والمكان وبعض الشخصيات، بخلاف تغير الحدث الرئيس. بداية من الحارة كمكان ثابت ومغلق للأحداث، إضافة إلى الإيحاء الدائم بمرور الزمن، زمن التأسي والفقد، كذلك بعض الشخصيات، مثل شيخ الحارة وإمام الزاوية. الأمر هنا وإن كان يتوسل بالرمز، إلا أنه ينحو إلى الوقائع الحياتية، عالم يغترب في مكان محدود وتائه ما بين ممثلي كل من السلطة الدينية والزمنية. ومن عالم الحارة المنغلقة والمتخوفة من كل وافدٍ غريب، تأتي التأويلات وتتواتر، التي لن تنتهي.. الحارة، الوطن، الاحتماء بالذات، الغرباء، الخوف، الضياع في النهاية وفقدان المعالم، وكحال محفوظ وأعماله، فلابد أن يحدث ما حدث، والأمل في الوعي وتحققه.
رحلة عبد ربه التائه
يبدو هنا منطق الفعل السردي يميل أكثر إلى البناء العقلي، والشحن الدلالي المرموز، وكما في أحلام محفوظ، يبدو تجاوز الصيغة الشكلية المحددة، فتراوح الحكي ما بين الشعر والنثر في صيغة سردية مختلفة، وتعود الأفكار الكبرى في صورة أخرى، وكما يستشهد الناقد، فهي أفكار طالما تردد صداها في أعمال مثل.. «قلب الليل، واللص والكلاب وليالي ألف ليلة»، متمثلة في الجلسة الصوفية ودلالتها، هذا العالم الذي يرد بالرمز على عالم الوقائع، وعلى الإنسان إعمال حدسه، وفي شذرة معنونة بالـ(التعارف) يستشعر الراوي الحرج من عدم اهتمام الشيخ، وقد أتى إلى حضرته، فيقول «فقدمني صديقي بين يديه ولكنه استمر في ما كان فيه غير ملتفت إليّ، ما أضرم الحياء في قلبي، ولكن صديقي أخذني من يدي وجلسنا آخر الصف، وهمستُ في أذنه: من الأفضل أن نذهب، فهمس في أذني: لقد قبل صداقتك، ولو كان رفضك لطردك بإشارة من يده». وصولاً إلى الجزء الأخير من أصداء السيرة الذاتية، التي يصبح بطلها الأوحد هو «عبد ربه التائه»، الذي يتماهى كثيراً مع المؤلف ذاته.
محمد عبد الرحيم