العرض المسرحي «ألاقي زيّك فين يا علي»… مراجعة المفاهيم الكبرى
[wpcc-script type=”cd39c32f7d1080cc4e19a9f4-text/javascript”]
القاهرة – «القدس العربي»: يأتي العرض المسرحي «ألاقي زيّك فين يا علي» ليحاول مراجعة وتصحيح بعض المفاهيم والرؤى حول الاستشهاد وتبعاته، وما بين اللفظ والمعنى تدور هذه المونودراما التي تكاد تقارب الـ 80 دقيقة.
فأن تحيا في ظِل البلاغة اللغوية وتحمل قداسات أن رب عائلتك قد نال الإكليل البلاغي/الشهادة، يُخالف تماماً ولا يُقارن بأن تحيا الواقع وتعاني حالة الفقد واليُتم المزمن، فالمقابلة هنا ما بين الوهم البلاغي والتصور الخيالي، وما بين المعاناة الفعلية لعائلة أحد الشهداء. والعرض حكاية طويلة للحظات متفرقة في حياة ابنة أحد الشهداء، هذه الحياة كيف كانت وكيف أصبحت جرّاء تحمّلها اللقب المقدس والموهوم في الوقت نفسه، بأن تكون «ابنة شهيد».
العرض من تأليف وأداء الفنانة الفلسطينية رائدة طه، التي تصوغ تجربتها الشخصية وتسرد تجربتها العائلية وذكرياتها عن الفعل الأكثر تأثيراً عليها، وهو استشهاد والدها الفدائي علي طه إثر اختطافه لطائرة متجهة إلى تل أبيب عام 1972. هذا العرض الذي قامت بإخراجه اللبنانية لينا أبيض، وتم عرضه في العديد من الدول العربية، وعُرض مؤخراً ضمن فعاليات مهرجان «دي كاف» للفنون المعاصرة في القاهرة.
توثيق الحدث
في الثامن من مايو/أيار 1972، قام كل من علي طه، عبد العزيز الأطرش، تيريزا هلسه وريما عيسى بتنفيذ عملية اختطاف طائرة كانت تتجه من مطار فيينا إلى تل أبيب، ليهبطوا بها في مطار اللد. فشلت عملية الفدائيين الأربعة، واستشهد على أثرها قائد العملية علي طه، وعبد العزيز الأطرش، واعتُقلت تيريزا وريما.
استشهد علي، وترك وراءه أرملة في السابعة والعشرين من عمرها، وأربع فتيات أكبرهن في السابعة وأصغرهن طفلة لم تكمل الثمانية أشهر. وبعد أكثر من أربعين عاماً تأتي رائدة طه، الابنة الكبرى للشهيد علي طه، لتكسر قداسة المُسمى، وتفصح أو تفضح المعنى الحقيقي لكلمة الشهيد وأثرها على حياة أسرته. بدأت رائدة بالبحث عن هوية والدها/هويتها وهي في العشرين من خلال ذكريات تتفاعل مع واقعها، سواء عن طريق والدتها أو عمتها، إضافة إلى بعض من الصور الفوتوغرافية وقصاصات الصحف، وبعض الخيال، حتى يتجسد في النهاية عملاً مسرحياً وثائقياً، تؤوله وتعيد تفسيره كاتبة ومؤدية العرض.
مجرد أريكة تجلس عليها امرأة وشاشة كبيرة خلفها تستعرض صوراً تجسد ذكرياتها التي تحكي من خلالها، ما عاشته بعيداً عن كلمات الدعاية والنظرة الخارجية والمُعتمدة للشهداء. لم تعش رائدة وقت التقاط هذه التصاوير، لذا فهي المتحررة من سطوتها، وهي الحرية التي أتاحت لها أن تحكي حكايات متباينة، تبدو في معظمها صادمة وغير معهودة. تجريد المشهد المسرحي المقصود هذا يؤصل لتجريد الحكاية من أساطيرها البطولية، ولا يتوقف عندها، بل ليكسر فكرة القداسة، فالأبناء يعيشون واقعاً مختلفاً لما تسطره الصحف عن الشهيد وعالمه.
من ناحية أخرى تكشف رائدة عن طبيعة عالم السلطة، المتمثلة في ياسر عرفات، فوالدها الشهيد لم يكن رجلاً عادياً، لم يكن شهيداً يومياً منسي الاسم، بل قريباً من السلطة وقائدها، الذي كان يحمل الطفلة (رائدة) ويلتقط معها الصور الفوتوغرافية ليخلّد الذكرى بدوره.
فتقول رائدة: «كان يرفعنا أنا وشقيقاتي إلى ركبتيه ويقول لنا يللي يرشكن بالمي أرشه بالنار. كلام لم يدمل جراحا، فجوهر وجودنا وجدته محطّما فيّ»، أي بطولة إذن ومَن الجدير بها؟ هذا هو التساؤل الذي تطرحه الابنة ومؤدية العرض في قسوة على الجميع، فنساء العائلة وما قدمنه للحياة والقدرة على معيشتها ومواصلة رحلتهن وحيدات، هي البطولة الحقة، إنتاج صيغة للحياة هو الأجدى، وسط كل هالات الصخب والتقديس، حتى لو تكلل الأمر بتصاوير مصلوبة فوق الحوائط مع زعيم المقاومة.
فقط… ابنة شهيد
حاولت رائدة طوال العرض أن تفتش عن هذا المعنى، وأن توضح المسافة الفارقة بين نظرة الإجلال والواقع، وهو ما قارنته ما بين عالم طفولي ساذج والحياة الحقيقية، لتسرد موقفين في غاية السخرية.. ففي الطفولة حين كانت بنات الشهيد يتلقين الهدايا في مناسبة الأعياد من محرّر فلسطين «أبو عمّار»، وبسماحه فتح المجال لأبناء الشهداء بالسفر، ما جعل (سمسم، صديقة رائدة) أن تتمنى استشهاد والدها حتى تتوقف غيرتها، وتلتحق بعالم الأطفال اليتامى.
ويوم قتل والدها في عمل فدائي، وهرعت الجماعات للعزاء، كانت سمسم في غاية السعادة، وقد حصلت أخيراً على لقب (ابنة شهيد)! هذه هي الفكرة الطفولية، التي لم تختلف كثيراً عن التصور نفسه لدى العامة، من حيث الاحتفاء والتبجيل، ومن دون أدنى وعي لما يحدث في الحقيقة. وهو ما يتأكد في موقف مغاير يكشف في لحظة وجهاً من هذه المعاناة، وهو ما يتمثل في ما تعرضت له رائدة نفسها من محاولة أحد العاملين مع الزعيم أبو عمّار للتعدّي عليها واغتصابها.. «كنت في الثانية والعشرين، سكرتيرة في مكتب ياسر عرفات، اغتنم هذا الرجل وجودي بمفردي في المكتب لينقض عليّ. تعالى صراخي، مهددة إياه بالفضيحة، مما جعل هذا الحقير يعي فعلته ويهرب. أبدى أبو عمّار اهتماماً لما جرى ووعد تأديباً، لكن المجرم لم يعاقب. وحتى اليوم أعاتب نفسي لأنني لم أواجه هذا الدنيء وأنتقم بنفسي لما حدث لي».
الأسلوب الفني
تبدو خطورة المونودراما كأحد أشكال العروض المسرحية، في كون الممثل الوحيد على خشبة المسرح، يظل في حوار دائم مع وعي الجمهور، ونجحت إلى حدٍ كبير كل من مؤدية ومخرجة العرض في الاحتفاظ بحالة الوعي هذه، وكأن الممثلة تحكي لكل شخص على حدة حكايتها. حتى يستطيع أن يعيد تقييم مفاهيم ظل طويلاً يحيا في أسرها.
ويبدو ذلك في الرؤية الإخراجية التي اعتمدت على تجريد المشهد المسرحي من العديد من مفرداته، كذلك لقطات الفوتوغرافيا والأغنيات التي تعبر عن الحدث المحكي أو توحي به من بعيد. وإعادة صياغة شذرات الأحداث من وعي صاحبته مؤلفته، ليصبح هناك خطاً سردياً يقع دوماً في المساحة المتوترة ما بين بداية التراجيديا والكوميديا السوداء الساخرة من الجميع ومفاهيمهم البالية.
محمد عبد الرحيم