الفنانة التشكيلية بهجة محمد:  صوت نسائي ملوّن من الصومال

«الفن ليس لهواً أو مجرد ترف، مهما كان هذا الترف رفيعاً، بل هو ضرورة ملحّة من ضرورات النفس الإنسانية في حوارها الشاق المستمر مع الكون المحيط بها. فإذا صح القول ألاّ فن بلا إنسان، فينبغي القول ألاّ إنسان بلا فن، يقول رينيه ويـج ذلك دون أن يعرف أنّ هذه الضرورة الملحّة كما ذكر، أو لنقل الممارسة الطبيعية للنشاط الإبداعي على أقل تقدير تعتبر حكراً على الرجال في بعض المناطق بحكم بعض الموروثات الاجتماعية والثقافية وما إلى ذلك من أوتاد تشدّ خيمة الجهل وترفع رأسها عالياً.

الفنانة التشكيلية بهجة محمد:  صوت نسائي ملوّن من الصومال

[wpcc-script type=”6c0388cb0c27351d8c063343-text/javascript”]

«الفن ليس لهواً أو مجرد ترف، مهما كان هذا الترف رفيعاً، بل هو ضرورة ملحّة من ضرورات النفس الإنسانية في حوارها الشاق المستمر مع الكون المحيط بها. فإذا صح القول ألاّ فن بلا إنسان، فينبغي القول ألاّ إنسان بلا فن، يقول رينيه ويـج ذلك دون أن يعرف أنّ هذه الضرورة الملحّة كما ذكر، أو لنقل الممارسة الطبيعية للنشاط الإبداعي على أقل تقدير تعتبر حكراً على الرجال في بعض المناطق بحكم بعض الموروثات الاجتماعية والثقافية وما إلى ذلك من أوتاد تشدّ خيمة الجهل وترفع رأسها عالياً.
لذا فإن دخول الفنانة الصومالية بهجة محمد – خريجة جامعة علوم الكمبيوتر، وشاركت في معرضين كبيرين في هرجيسا، ونالت جائزة في مسابقة فنية بعد أن تفوقتْ على عشرات الفنانين – عالم الفن وخطوها على طريقه داخل بلدها الصومال منذ سنوات قليلة، لم يكن أمراً سهلاً، لكن بهجة جعلته ممكناً. كانت الفنانة تمارس الرسم في مكتبها بمقر الثقافة والفنون في هرجيسا، عاصمة حكومة أرض الصومال، حيث ان استتباب الوضع الأمني في تلك المنطقة خلق جواّ ملائماً لنهضة ثقافيّة فنية لا تستطيع إلا أن تكون خجولة وبطيئة لكنها مهمة مقارنةً بباقي مناطق الصومال.
نتأمل أعمال بهجة فنلاحظ أنها وجدت صوتها في الفن، ولوحاتها لسانٌ ينطق بما تريد قوله حيث لا مجال للسكوت عما يحدث حولها، ولا صوت يصل من تلك البقاع من الأرض. فلتكن اللوحة رسالتها المقروءة بعد أن فاضت رؤوسنا بعبارات من فصيلة «الفن لغة العالم»، لذا راحت الفنانة تتصدى لقضايا كبرى تشغلها، بعضها يخصّ المرأة (كالإتجار بها، والتزويج المبكر، ومنعها من التعليم…)، والآخر محاولات لتسليط الضوء على مسائل  تنخر جسد مجتمعها. تقول بهجة إنها تستخدم الريشة من أجل السلام، ومعالجة المشاكل الاجتماعية كقضايا الأطفال، وظاهرة الهجرة غير المشروعة التي تتسبب في موت الكثير.
لكن هذه المواضيع لم تمنعها من رسم بيئتها، كيف لا وهي ابنة القارة الافريقيّة التي تظهر في لوحاتها بشكلٍ طبيعي، دون أن تتكلّف حشر بعض الرموز والطلاسم لإكساب الأعمال هويّة معيّنة. فالبشرة السمراء مع الابتسامة العريضة ذات الأسنان البيضاء اللامعة كالمرايا المصقولة، مع ثيابٍ ملوّنة، بالإضافة إلى السهوب الصفراء التي تمتد على مساحات اللوحة أو بعض الحيوانات الافريقية (الزرافة التي تطاول رأسها لتلتهم أوراقاً غضّة من أعلى إحدى اللوحات والشجرة معاً، مثلاً).
أعمال بهجة تتجوّل بقوة رغم صغر حجم بعضها، وبثقة عالية بعيداً عن إرهاصات الشعور بالدونية التي حاول المجتمع تكريسه داخلها، إلا أنها كانت أقوى ودخلت مرفوعة الرأس، فقد وجدت قشتها وراحت تجذف وسط هذا المجتمع في مجال الفن غير عابئة بالتصنيفات والأحكام المسبقة. تقول: «إن الفن التشكيلي هواية لا تفرّق بين الرجال أو النساء، وموهبة لا تعرف الحدود، وعليه ينبغي للنساء اللواتي يعشقن ويحببن هذا الفن، إظهار موهبتهن وممارسة هذا الفن دون النظر إلى ما يقوله أي شخص».
وكون الفنانة وجدت نفسها المرأة الوحيدة على شاشة التشكيل الصومالي، فقد فرض عليها هذا الحال تكريس لوحاتها لتكون منصة لصور من حياة المرأة في بلادها، فنجد في أحد الأعمال صيّاداً حظي بطفلة، يداها مكبّلتان بالأغلال والقفل الذهبيّ يلمع، تمسيده لخدها كان يعني فراشاً وثيراً سيمددها عليه بعد أن ينتهي من التموضع الرسمي ضمن كادر. الانكسار في وجه الطفلة ذات الرأس المحني واضحٌ فجّ ينتظر من يلصق شظاياه، ويعيد فرح الطفولة بدلا من النشوة المنتظرة إن سُمح بذلك.
وفي أعمال أخرى نجد النسوة في الحقول، فتلك الباسمة تحمل مجهولاً فوق رأسها احتمالاته مفتوحة ربما يكون محصولاً من الحقول الصفراء النائمة خلفها، وربما قربة ماء وربما هو كلّ الخير الذي ينعكس فرحاً في عينيها فيملأ البورتريه هذا ويفيض ليسحب طرفي أفواهنا للأعلى، فتنشد كأقواس وتجعلنا نحاول تقليد بسمتها ورمي سهام الفرح.
اللوحة الأخرى لفلاحة ترمي البذور في السهل المقابل لقريتها، فتشتعل نوراً وتملأ حركات يدها الفراغ من حولها بالريح، فتهتز شجيرات القرية وتردّ عليها التحية البعيدة الخضراء. وفي كادرٍ مقابل مدينةٌ فاضلة لم يصنعها أفلاطون هذه المرة، بل بهجة، طفلةٌ تجلس على الأرض بثيابها الربيعيّة، وتسند كتابها على الأرض وتدرسه، وتحتل يسار العمل لتترك لوحاً في اليمين يرسم عليه الطفل بالألوان التي يحملها وجهاً ضخماً لحيوانٍ مفترس لا يخيف طالما هو محبوسٌ ضمن مربع!
أعمالها طفولية دون اصطناع، فهي ترسم بفطرة الفنان الذي يحمل في روحه كلّ التفاصيل. يقول الشاعر الفرنسي بودلير: «الإبداع هو الطفولة التي تجيئك بمقدار ما ترغب في مجيئها» والفنانة كانت ترغب في ذلك بشدة. نرى ذلك من خلال العفوية في رسم بعض التكوينات عن طريق خطوط منحنية متواصلة، ويظهر ذلك أيضاً في طريقة تلوين عدد من اللوحات التي لا تخضع لأسلوب معين بل لإرادة اظهار الصورة الداخلية للمشاهدين.
وأعمال بهجة محمد تنقسم إلى قسمين من ناحية الألوان، الأول ألوان ترابية شاحبة فقيرة، البني بتدرجاته هو الطاغي، بما يتلاءم مع موضوع العمل، أما القسم الثاني فإنه مليء بالألوان الناضجة بما يليق بشمس افريقيا، فنرى الثياب بألوان واضحة تحمل باقات من الورود، وتمتد بعض الألوان في الخلفية كسجاجيد ملوّنة، صفراء تستحضر حقول فان كوخ، وزرقاء تمنحنا جناحين لنحلّق داخلها.
بهجة محمد بلوحاتها تريد أن تقول كل ما في حلق النساء، ليتنفسن من جديد، لتساهم في شفاء ألم نفوسهن وإلا سيكون فنها خالياً – وجد أبيقور الفلسفة كذلك، إن لم تشفِ النفوس – ولهذا فإن أعمالها زفرة في وجه المجتمع ليفتح عينيه ويبصر حاله.
وتؤكد الفنانة على أنها ستكمل العمل رغم أن مزاولة الفن التشكيلي لا تمثل مصدر رزق يُذكر بالنسبة لها، وستستمر في النداء والسير في طريق وعر لوحدها، مهما كان طويلاً ومهما كان حصانها متعباً. بهجة محمد سوف تكون الصوت النسائي الملوّن للصومال.

الفنانة التشكيلية بهجة محمد:  صوت نسائي ملوّن من الصومال

بسمة شيخو

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *