الفنانة السورية مرام معتوق: نساء يخبّئن الملامح في انتظار حياة أخرى
[wpcc-script type=”ef3790c1b60c23993a134027-text/javascript”]
«أعيروني ما شئتم من روحكم..
فكلما ذكرتُكم ..
أصبحتم لوحة»!
أي ساحرةٍ تقول هذه العبارة! أي فنانةٍ تلك التي تستطيع أن تحوّل الذكرى للوحة تحمل داخلها الكثير من الرّوح والحكايات العتيقة. مرام معتوق، الفنانة السورية (مواليد 1980خريجة كلية الفنون الجميلة في مدينة دمشق)، تتقن صنعة السحر وتحرّك عصاها برشاقة فتخلق بضرباتها كائنات وعوالم جديدة كما تشاء.
ترسم شخصياتها كحكاية من ألف ليلة وليلة، النساء محور معظم الأعمال يسترخين في أحد جوانب اللوحة لا خضوعاً ولا خنوعاً إنما في حالةٍ من التّرقب والانتظار المستمر؛ للملل ضمن هذه اللوحات رائحةٌ طاغية تصل لأنف كلّ من شاهد العمل، وللحزن كذلك رائحةٌ ألذع تعلق بالروح، فمعتوق قادرةٌ على التحكم بإيقاع أرواح كلّ من يتابع لوحاتها التي تتنفس أكسجين الحلم فتطل كومضةٍ في الخيال من خلال صناعتها للشفافية عبر خاماتٍ مختلفة.
المرأة عند معتوق ليست وحيدة أبداً، غياب الرجل لا يعني الوحدة، فأشياء كثيرة تملأ حياتها، القطة مثلاً لا تغيب عن الكثير من الأعمال فهي الحيوان المدلل الذي يدير ظهرها لنا ويتأمل جليسته باهتمام، خلافاً للبومة التي تحدّق في وجوهنا بعينيها الصفراوين، وجودها ليس شؤماً بعد اليوم فهي الصديق الأمثل في هذه الحياة؛ لو تعرف كم نشبهها! ننتظر الليل لنستطيع أن نبصر جيداً فالنهار مملوء بالآثام التي تعمي العيون، ليت مرام تخبرها بذلك؛ السمكة أيضاً حاضرة على طاولةٍ صغيرة، بحرٌ محبوس في زجاجة يحضن سمكةٌ جميلةٌ مخططة مليئة بالألوان- مع أنها مرسومة بالأبيض والأسود وقليلٍ من الأصفر.
نساء مرام يظهرن دون ملامح واضحة، هل هن كذلك! أم أن الأيام مسحت تفاصيلهن؟ هل غسلن وجوههن بالحسرة حتى ذابت؟ أم خبّأن الملامح لحياةٍ أخرى تحمل من الجمال ما غاب…؟
نساء عاجزات، فأقدامهن متشابكة لا يستطعن الحراك، وأيديهن مكتفة تارة وتارةً أخرى تغطي وجوههن البائسة، لا طاقة للأصابع الصغيرة على كتابة الحكاية، ولا قدرة للأرجل على إكمال المشوار؛ يحتضن دميةً أحياناً، طفلٌ من قطنٍ وقماش يرتمي من أيديهن، وأخريات يحضن أطفالهن وحيدات وقويات، وهو احتضان يمنع حتى الموت من الوصول إليهم. الأطفال في لوحات مرام بخير وأمان خلافاً لما هو حالهم في بلادها؛ حيث يظهر شبح الحرب اللعين في بعض أعمالها من خلال تكديس الأجساد فوق بعضها. الصورة ليست غريبةً كما يبدو للوهلة الأولى، منأنها صورةٌ مملة ومكررة لكثرة ما لاكتها نشرات الأخبار، لكنها هنا تحمل قشعريرةً للبدن لا تنتهي بمغادرة اللوحة.
الخلفية في اللوحات مقسمةٌ إلى مربعات متباينة الأحجام والألوان، يغطي أحدها الآخر، تعطي اللوحة بعداً ثالثاً؛ فمرام استغنت عن المنظور في أعمالها بالإضافةً إلى الضبابية التي تغمر الجو العام في العمل والذي يدفع العمل باتجاه الانطباعية أحياناً، وكأننا نشاهد بعض الأعمال من خلف ستار ولا نجرؤ على فتحه ليبدأ العرض، ضبابية تمسك قول فيكتور هيغو وتلوّح به: «لا تكثر من الإيضاح فتفسد روعة الفن».
العديد من لوحات الفنانة معتوق أعلنت الحداد واتشحت بالأسود والأبيض وما ينتج عنهما من جماعة الرماديات المفتوحة على كلّ الألوان، كما قال فان غوغ: «الأسود والأبيض يلونان الحياة بالرمادي. للرمادي احتمالات لا تنتهي: رمادي أحمر، رمادي أزرق، رمادي أخضر».
إلا أن لوناً واضحاً يستطيع التسلل مراتٍ إلى متحف الرمادي لديها فيضيء هناك (أصفر، بنفسجي..)، أما اللوحات الخارجة عن الحداد لتحتفل بالحياة فإنها لم تكن صارخة ولا مفعمة بالفرح، فهي في مجملها تنتمي إلى مجموعة الألوان الترابية (البني والبيج والأصفر…)، والتي لا يمكن أن نصفها بالألوان القويّة فهي تميل إلى الهدوء والسكينة كسمفونيةٍ تُسمع من بيتٍ بعيد نهاية الليل.
لا خطوط قاسية وواضحة في اللوحات، مجرد ألوانٍ تحدد الأشكال ذات المنحنيات، فالأشكال أنثوية القوام مئة في المئة بعيدةٌ عن الحدة والتكسّر التي تملأ أرواح تلك الأجساد المكوّرة، الإضاءة تُخلق أحياناً لترمي بعض الظلال على أجساد النساء، أما غالباً فالضوء يأتي من الأجساد بصورة لونٍ متوهج وتستحضره العين في عدة لوحات من خلال رسم مصباح الإنارة بجانب المرأة، علّها تبصر طريقها. ضوء وكثير من الحياة والإحساس، ما الذي يحتاجه العمل الفني إلا ذاك؟
يتشابه الأمر مع فرنشيسكو غويا هنا، فله رأيٌ مشابه: «يتحدث الأساتذة دائما عن الخطوط والألوان، ولكني لا أرى في الطبيعة لا خطوطا ولا ألوانَ وإنما أرى أضواءً وظلالا فحسب».!
إلا أن غياب الخطوط عن تحديد وتأطير الأشكال لا يعني غيابها التام في العمل، فمرام تلجأ إلى التلوين بطريقة تشبه التهشير أحياناً، عبر ملء بعض المساحات بخطوطٍ متقاربة، أو نقاطٍ متباعدة أو مربعاتٍ متلاصقة؛ خياراتٌ كثيرة لإكساب عناصر اللوحة الخامات المناسبة. وفي بعض التخطيطات (السكيتش) بقلم الحبر يظهر حضور الخط بكامل أناقته وقوته وجرأته متماسكاً دون انقطاع، بانحناءاتٍ تخلق أجمل النساء وأكثرهن قوةً وحزناً؛ وربما حمّلت نساء معتوق أكثر مما يحتمل ظهرهن.
حيادية الوجوه مخيفة، النظرة الصفراء كذلك تحمّلك مسؤولية أمورٍ لا تعرفها ولا دخل لك بها غالباً؛ لكن في الحقيقة هن محقات، وجميعنا مسؤولون عن كآبتهن وحزنهن. لسن أخيلةً ولا دمى كما يتهيأ لنا في بعض الأعمال، إنهن نساء حقيقيات يحكين قصصهن على لسان ريشة معتوق.
بسمة شيخو