الفنان الليبي علي الزويك بأصابع طفل يصنع كائنات تمضغها السعادة

من خلف ستائرَ شفافة نلمح لوحاته، تطلّ كألف شمسٍ مشرقة- بالإذن من خالد حسيني- وكأننا أمام نافذةٍ واسعة نتأمل الألوان التي بعثرها طفلٌ بأصابعه على صدر السماء.

الفنان الليبي علي الزويك بأصابع طفل يصنع كائنات تمضغها السعادة

[wpcc-script type=”59c027eeae3828ec6c042833-text/javascript”]

من خلف ستائرَ شفافة نلمح لوحاته، تطلّ كألف شمسٍ مشرقة- بالإذن من خالد حسيني- وكأننا أمام نافذةٍ واسعة نتأمل الألوان التي بعثرها طفلٌ بأصابعه على صدر السماء.
للفنان الليبي علي الزويك (مواليد 1949) أصابع مشابهة لذاك الطفل بشكلٍ غريب. يرسم ببراءة الفنون الأولى وكأنك دخلتَ كهف لاسكو ورحتَ تتأمل جدرانه التي يملأها الفنان الليبي بتفاصيل منوّعة: فواكه كالتفاح والموز، حشرات، حيوانات، وأوان تقليديّة تشبه الزواحف إلى حد ما، وجوه كثيرة متزاحمة، مبهمة التفاصيل بعفوية، تائهة لن تستطيع تحديد ملامحها. هل هي وجوه بشر، أم لعلها لكائنات أخرى، لا تستطيع أن تخبرك بما تحمله من حالةٍ نفسية، لتصير انت مرآةً لها وتتجسد الشخصيات في داخلك لتظهر وجوهها بوضوح ودقة شبه معدومة في أعمال الزويك. رؤوس أخرى تصطف مقطوعة ملوّنة بالأحمر والأصفر والأزرق، أحدها مزّينٌ بتاج يظهر في لوحة «رجلٌ تمضغه السعادة» حتى الملوك ستقتلهم سعادتهم ذات مرة، اللوحة رحبةٌ هنا تجمع ما يعجز المنطق عن جمعه، عملية (1+1 ) تساوي اللانهاية في الفن؛ فالكلب والسمكة والموز ضمن سياج لوحةٍ واحدة، سرياليةٌ غريبة أراها تجمع بحراً وأرضاً وشجراً، وهل الكون أكثر من ذلك؟
بعض اللوحات مزدحمٌ بالزخارف والجمال، وبعضها الآخر يشعرك ان جريمةً ما حصلت في اللوحة قبل أن تراها بقليل، لوحةُ «شظايا كريستالية» توحي بوجود تفاحة معلّقة في السماء وكأنها لحظة الخطيئة التي طردتنا من الجنة. «تختلط في مائدة الزويك التخيلية الثمار والحشرات والذبائح، تتلاصق الأشياء عضوياً حتى لتبدو أقرب إلى الأحشاء الباطنة المستخرجة حديثا بنزيفها الدموي وخفقها البيولوجي وكأنه يسلخ الكائن الحي (بما فيه الإنسان) من ألبسته وجلده وعظامه التي ما زالت تحمل سخونة الذبح والسلخ والنزيف المحترق، تغلب عليها هيئة القلب الطازج الأشبه بالأشياء الحلزونية المقتلعة من صدفة الانطوائية للتو، والمرمية في فضائح الشمس على الشاطئ والرمل الملتهب».هكذا يقدم الناقد السوري أسعد عرابي الكتاب الذي كان قد صدر تحت عنوان «علي الزويك فيوض السرد – فن الخلية» والذي تناول فيه 38 لوحة.
فلكلّ تفصيل في اللوحة دلالةٌ رمزيّة، اللوحات تجمع بين التبسيط والعمق الذي من الممكن أن تغفل عنه أحياناً بسبب تفاصيل اللوحة الحياتية، رجلٌ يحمل ابنه على رأسه في سريره الصغير وآخر يحمل موقد غاز في يده، بالإضافة إلى بدائية الأعمال وبعدها عن الفن الأكاديمي صاحب القواعد والمدارس والنظريات. وهذا الأسلوب في االعمل ليس حكراً على الزويك فقط، فها هم السرياليون والتجريديون يستقون مفرداتهم من فنون الأطفال، وهاهو بابلو بيكاسو يستوحي من بدائية الفن الزنجي وعفويته، ويدافع عن إبداعه وروعته أمام من يستخف به، كما أن الدراسات الفنية بدأت تتناول فنون الشعوب القديمة المختلفة ابتداءً من أفريقيا السمراء إلى المكسيك، ودرست فنون الأقوام البدائية، وكذلك أشكال التعبير الفني التي تركها سكان الكهوف في العصر الحجري القديم.
ذلك لأن الفن البدائي الساذج- كما يُطلق عليه- أو ما يماثله من فنون الأطفال، يملك ميزات هامة، فهو يحمل لنا التعبير عن أعقد المسائل النفسية والمشكلات الاجتماعية بأبسط الصور. يرمي بالزّيف ويكون صادقاً لأبعد حد، يزاحم ببراءته وبساطته الكثير من تعقيدات الحياة الحديثة وما فرضته علينا من أنماطٍ مركبة؛ ربما كان وجوده الآن ردة فعلٍ على شباك العنكبوت التي تحضننا واستبدالها بحبلٍ واحد يفرض علينا رشاقة لاعبي الجمباز.
نقفز عالياً بفرح لنصل عناوين لوحات الزويك المبهجة للوهلة الأولى والساخرة حتماً (حلاوة الأيس كريم، العازف، قاموس البهجة، رجل تمضغه السعادة). نسبح في ألوانه المائية (الأكواريل)، التي تحمل في شفافيتها مراكب من المعاني والإسقاطات، وكأن مفردات اللوحة أسماك تسكنها، ديناميكية الألوان توحي بحركة مستمرة، فالألوان عبارة عن بقعٍ قويّة تذكرنا بتلك المتناثرة على سطح اللوحة لدى خوان ميرو، لكن الشفافية التي تحملها تخفف من هذه القوة وتحملها إلى ضفة الحلم والخيال. أعمال الزويك بسيطة في الظاهر، معقدة الهدف عند محاولة فهم ما وراء الستار. الأشكال الغرائبية فيها تدفع أعمال بيكون إلى ذاكرتنا، وكذلك لا معقولية الفكرة وترتيب المفردات تسير بالأعمال نحو السريالية، فيلوح أن الزويك هو تماماً كما قال عنه الفنان التشكيلي المصري عدلي رزق الله:»خلطة قلما تجدها في فنان واحد تلقائي يصل إلى حدود التلقائيين، باطني رمزي، تعبيري وأعماله مركبة في الوقت نفسه».
تنقّل الزويك بين المواضيع فبدأ برسومٍ يحتفي بها بالماضي الجميل، كما في لوحة «المدينة البيضاء» مثلاً، تحمل بيوتاً ذات جدران جيرية متآكلة ومتداعية أحياناً، مع ظلال بنفسجية شفافة تتداخل مع الأقواس الإسلامية بنقوشها وزخارفها، نسيج من اللون الأبيض مزركش بالنخيل الذي يظهر تارة ثم يختفي بين البيوت المتراصة بتركيز على الحالة التعبيرية للأشياء. وبعدها انتقل إلى ما يسميه البعض «الرسم الانطوائي» المعتمد على فلسفة الاستفزاز والتحريض، وترك المعنى معلقاً في فضاء العمل.
وفي كل المواضيع كانت لوحات الزويك حقيقية، فأسلوبه هذا لا يقبل محسنات تشكيلية تشغل العين بالتقنية وبألعاب الظل والنور وتدرجات الألوان وما إلى ذلك، معوضةً أحياناً عن فقرٍ في الفكرة أو شحٍ في الخيال، بالإضافة إلى التكوين غير التقليدي للوحة، حيث لا يوجد لها مركز، فتنهمر المفردات على سطحها كسرب من الأحاسيس والانفعالات؛ وهذا ما جعل أعماله تنتشر على نطاقٍ واسع، تتجاوز المحلي والإقليمي إلى مستوى عالمي وتخاطب المشاهد أينما كان بتجارب إنسانية مشتركة بين الجميع تتوزع كلماتها في قواميس الكون وأولها «قاموس البهجة» الخاص بالزويك.
فنان ذو حساسية عالية في الرسم، يكاد يكون رسام الكهوف الأولى في عفويته وطفلاً بريئاً في تلقائيته وألوانه، تقترب لوحاته من تعويذات السحرة لتحوذ على العديد من الجوائز. يقول الزويك عن فنه: «بدايتي في التشكيل أرسم البلح وبيوت الطين، القرى البيضاء المتداخلة بين الأضواء والظلال، الأشياء تحت الماء، رسمت عالم الفقراء بمفهوم العالم الصناعي. زمني زمن الآخرين، المتقدمين، المتخلفين، على حد سواء، هو زمن الشكوى، الشكوى من كل شيء. لا يذكر شيء إلا وتسبقه كلمة أزمة، عدد الذين يعيشون خارج أوطانهم يزداد كل يوم والأسباب عديدة، منها الخبز والشمس، القلق، الانحسار، الوحدة رغم الزحمة. المدن المكتظة بواجهات المحلات الاستهلاكية وسقط المتاع، تتعاظم يوما بعد يوم الحاجة الملحة للتعبير عن الذات».

بسمة شيخو

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *