اللامرئي والمنفي في أعمال التشكيلي المغربي عبد الرحيم إقبي
[wpcc-script type=”85ddde4cb95f825dc3aef84e-text/javascript”]

يسعى الفنان التشكيلي المغربي عبد الرحيم إقبـي إلى القبض على اللامرئي واللامفكر فيه في الجسد الإنساني والعالم، باعتبار الأول حضورا في الثاني. كما إن الجسد عنده يُشَكَّلُ باعتباره سيمولاكرا يتجاوز المعنى الأفلاطوني لهذا المفهوم، حيث ليست شخوص هذا الفنان (التي تتأرجح بين الأنثوي والذكوري واللامحدد) تشويها لعالم مثالي أو للواقع، بل إنها الواقع عينه بصيغة مغايرة.
يتصل العمل الفني عند هذا التشكيلي بالسيرورة واللااكتمال، إذ أن فعل الإبداع مستمر في الزمن واختراق الفضاء الذي لا يكتمل عند اللوحة الواحدة أو العمل الفني الواحد. لا يبدع هذا التشكيلي من منطلق النقل والنسخ والتصوير الواقعي، وإن كان قد احترف الرسم بصيغته الانطباعية في عام 2008. يخرج إقبي عن النظم الكلاسيكية والرسم التصويري الواقعي ليجترح عوالمه الدفينة ويكشف عنها، باعتبار أن العمل الفني هو كشف عن الخفي وعن عالم لم يُكشف عنه بعد.
مهمة الفن أن يجعل اللامرئي مرئيا، كما يذهب إليه جيل دولوز، وكما يتبنى عبد الرحيم إقبـي في طرحه واشتغاله الجمالي، فهذا الفنان لا يسعى إلا للكشف عن الجُواني والمتجاوَز واللامرئي عن اللامُمسك به واللامحدد، لهذا تحضر شخوصه بشكلها «المشوه»، إذ ما هي إلا سيمولاكرات، وقد اكتست صيغة الحضور والخروج، إلا إنه خروج من العدم إلى الوجود. فالكشف هنا هو الاقتراب من هاوية واللعب عند حدود الكارثة، أو بالأحرى إنه «استعادة اللامتناهي» بتعبير دولوز، وهذه هي مهمة الفنان كما يرى هذا المفكر.
اللامرئي في العالم
لا يسعى الفنان التشكيلي عبد الرحيم إقبي لرسم معرفة ما، فهذا غرض العلم كما يقول، بل يسعى إلى الكشف عن اللامرئي والإمساك به، وإظهار تلك الشخوص التي تسكننا ونسكنها ولا نبصرها، تكاد تكون انعكاسا لنا ونكاد أن نكون انعكاسا لها، إنها «أشباه لنا» ومستقلة عنا في الآن نفسه، باعتبارها سيمولاكر لا يجد لنفسه إمكانية الظهور إلا من خلال العالم أو العمل الفني بالأحرى.
كانت نقطة الانعطاف الأساسية في مسار الفنان إقبي، الذي بدأه منذ بدايات التسعينيات من القرن الماضي، كانت بالتحديد سنة 2008 حينما حوّل هذا التشكيلي اهتمامه البصري من الانطباعية، ومشاهدها الطبيعية والعاطفية المستهلكة، إلى الاهتمام باللامرئي والكارثي والدرامي والتجربة السوداوية في الإنسان، أو بالتحديد بالعدمي عند الإنسان. فالعالم يسير إلى العدمية وقلب كل «القيم»، والفن هو منقذنا الوحيد ووسيلتنا إلى تحقيق التغيير الجذر في العالم، كما يرى نيتشه، لهذا فالغرض من الفن والعمل الفني هو إظهار حالات التشظي والتمزق، تلك الحالات اللامرئية والثاوية في الكائن والعالم. ولتحقيق هذا الكشف على الفنان – كما يذهب جيل دولوز- أن يشتغل على إنتاج كتل ومركبات انفعالية وجمالية، بل إن الفنان هو من يصنع إمكانات القوة، وإنتاج «الأثر» الذي يُخرج الإنسان من حدوده الإنسانية ويدفعه لاكتشاف صيرورات الوجود الأخرى ، فيصير الفن موقفا من العالم ويغير طبيعة إدراكنا للواقع.
يحاول الفنان تحقيق هذه الغاية، عبر الاشتغال البصري على نقل الواقع كما يراه هو، واقعا يسبح في الكاووس، على شفا حفرة من الهاوية، عالم درامي.. فيصير العمل بالتالي منفى للفنان. إن العمل الفني إذن منفى للذات ومنفى من العالم الخارجي، فما أن يبدأ الفنان بتشكيل عمله حتى يُفنى من عالمه/وطنه، ليلج العدم، أو بالأحرى يخرج إليه، إذ ينعدم الفنان، والحال هنا عبد الرحيم إقبي، عن العالم خارج اللوحة. حال اشتغاله على آثاره الإبداعية يسعى إقبي إلى نفي ذاته داخل ما ينشئه، بل مع هذه العملية فهو يقاوم «خطر موت الحياة». فـ «أن تبدع يعني أن تقاوم». وفعل المقاومة عند إقبي تقارن بنفي ذاته في العمل، وتضحيته بوجوده من أجل العمل الفني والفن، أي إنتاج «الجمال» من أجل كبح ودحض «سوداوية» العالم الذي يلتهم الإنسان. وبالأدق فهو يقاوم الموت، وهذا شغل الفنان، من حيث أن الموت هو أرق الكائن الأبدي والأزلي، وما الحياة إلا هروب من الموت، والفن مقاومة له.
مقاومة الموت تستدعي بالنسبة له القبض على اللحظة واقتناصها، فـالغاية الأساسية والقصوى التي يتوجه إليها العمل الفني هي القبض على اللحظة وجعلها دائمة، وإزالة كل ما يلتصق بإدراكنا بالخصوص أرق الموت… فالقبض على اللحظة يستدعي «إرادة قوة الفنان بما هو فنان»، أي قدرته على إدراك الأشياء القوية في الحياة، والتعبير عنها عبر كتل من إحساسات وانفعالات، يقابلها ما يقوم به الفيلسوف من خلق لكتل مفاهيم، غايتها إدراك العالم والتعبير عنه وشرحه وتأويله، من حيث أن العالم ليس هو ما نراه: إنه اللامرئي. وهذا مسعى إقبي حينما يرسم شخوصه الشاحبة والباردة والنحيفة والضعيفة والمشوهة، في إطار تسوده العتمة، كأني به يقبض على اللحظة التي يضعها في إطار، لحظة لا تنفصل عن صيرورة العمل ككل.
سيمولاكرات عبد الرحيم إقبي متشابهة ومتماثلة، أحيانا تكاد تشبه الفنان عينه، وإن كان يدعي أنه لا يرسم ذاته، بل يرسم اللامرئي في العالم، واللامدرك من قبل العين البشرية، وكما اللاممسك به من قبل التفكير البشري. وهنا يصير العمل الفني تشفيرا للعالم، إنه يحمل رموزا تغدو لغة بصرية مقروءة. أما العالم من حيث هو وحدات مكثفة من الرموز التي يعالجها الدماغ البشري من أجل التواصل والتفاهم، فالعمل الفني يتعدى ويتجاوز هذا المعنى التواصلي والغرض منه، فالفنان يسعى إلى بناء لغة بصرية لا تواصلية، لهذا يحتاج لسلسلة من الرموز البصرية، التي يوظف من أجلها أشكالا وأحجاما وأغراضا وخطوطا وألوانا… يستعين عبد الرحيم إقبي في بنائه اللغوي بالألوان والخطوط بالضرورة، لكنه يكسر كل الارتباطات البصرية التي ترتبط بهذين العنصرين. فهذا الفنان لا يهتم بنقط التلاشي والأبعاد التصويرية والتقسيم المشهدي للوحة التصويرية، إذ إنه لا يصوّر مشاهد بقدر ما يخلقها، إنه يجعل اللامرئي مرئيا، وهذا يتطلب تجاوز المعايير المتعارف عليها. ولا يجد إقبي ضالته إلا في ما يسمى بالشبه- واقعي أو الشبه – تجريدي أو الواقع المجرد من حيث أن التجريد هو كشف عن الجواني لا الواقعي والمدرك خارج الذات، بينما الشبه تجريدي فيرومُ إلى الكشف عن اللامرئي في الواقع، أو ميتاواقع، ما وراء الواقع.
لهذا كان لزاما من خلق لغة ترميزية بصرية تكشف عن هذا الواقع المتجاوز للواقع عينه، أي هذا الماوراء. فـ»الغرض الفني» هو شكل خاص للرمز، من حيث أن الرسم (التصوير الصباغي) هو لغة لها منطقها الخاص، بعيدا عن منطق اللغة المكتوبة حتى المسموع (الموسيقى مثلا). لكن ما هي رموز عبد الرحيم إقبي البصرية؟
الرؤية الفنية
تتعلق رموز هذا الفنان التشكيلي الثاوي في مرسمه بعيدا عن أي ضجيج، بما يمكن أن نسميه بـ«التعبير التمثيلي المجازي» كما ساقه الفيلسوف الأمريكي نيلسون غودمان في كتابه «لغات الفن»، حيث تستمد اللغة البصرية عند إقبي والإنتاج الفني لديه من: «التمثيل، والتعبير، والتجسيد، الاقتباس». فهو يمثل/يجسد شخوصه عبر تلك الهالات واللطخات الصباغية للتعبير عن اللامرئي واللامدرك، كما سبق وذهبنا سالفا، فيضعها في صيغ مجازية، إلا أن هذا يتطلب امتلاك ما يمكن تسميته بـ«التجربة الفنية»، هذه التجربة التي يمتلكها الفنان ويحوزها عبر الممارسة والبحث، وتكمن التجربة الفنية عند عبد الرحيم إقبي في كونه استطاع أن يخلق لنفسه عبر ممارسة فنية تجاوزت 27 سنة من الاشتغال الدؤوب في الحقل الفني والتصوير الصباغي. وعلى خلاف الكثيرين من جيله الذين اختاروا النزوح إلى التجريد، فهذا الفنان سلك مسلكا انطلق من الاشتغال الانطباعي وصولا إلى المآلات البصرية، ذات النسق الرمزي، التي يتناولها اليوم في مرسمه في مراكش.
وهو يهتم في تصويره الصباغي على الإنسان، الذي يجعله مركزا لكل أعماله. تارة فرحا وتارة حزينا وتارة يستحيل تحديد ما تعبر عنه تلك الملامح الباردة والحادة والجافة. فالفنان هنا يستعين بالمجاز للتعبير عن الحالات التي يريد التبليغ عنها. والمجاز هنا يختلف عن المجاز في اللغة، إذ حينما نستعين بالمجاز في اللغة للتعبير، فنحن نحدث عنفا عليها، عنف مادي من حيث أن اللغة جسم قبل أن تكون ممارسة. والمجاز – أو الاستعارة – تركيب لغوي يظل دائما خاطئا، وإن كان يدلنا إلى شيء معين. بينما حينما يستعين الفنان التشكيلي في اشتغاله على العمل على المجاز -أو الاستعارة – فباعتباره وسيلته للتوجيه المسبق للبصر، أو كما يقول الفنان «يجب توجيه نظر المشاهد، بحيث لا يركز على الجسم، ولكن على النظرة»، فتصير الاستعارة الأداة الفعالة لإظهار النسق الرمزي الذي يؤطر العمل الفني، الذي بدوره يروم الكشف عن اللامرئي. وبالنسبة للمجال الإدراكي الاستعاراتي، فالفنون البصرية يمكن تفسيرها على أنها المجازات والاستعارات لإعطاء نموذج للغة اللفظية، والإعراب عما هو حيزي، وكما لتجميد الشيء في اللحظة.
بين كل هذا وذاك، يتخذ الفنان للوحات شرطا وجوديا يتعلق بالقول البصري الخاص به، الذي يبتغي تحرير الكائن من الواقع عينه، باعتبار هذا الأخير مجرد «وهم»، أما «الحقيقة» فهي ما لا يُقدر على إبصاره وإدراكه، والذي يستوجب لفعل ذلك قدرة على فك شيفرة اللامرئي، هذا الأخير الذي بدوره يستلزم إدراك نسق الرمزي. وهذا ما يعطي للعمل الفني حضوره وإمكانية خروجه إلى الوجود. ويستعين من أجل ذلك إقبي بتقنيات متعددة، ذات أبعاد ترميزية مختلفة، من تصوير صباغي وكولاج (فن اللصق) وروسيكلاج (إعادة التدوير)، وكما مونتاج (فن التركيب) وحرق وتمزيق وتقطيع… هذا بالإضافة إلى أنه يشتغل على أسانيد مختلفة من كارتون وقماش وورق وما إلى ذلك. هذا التعدد يجعل العمل لديه عامرا بالرموز التي تتحول إلى شخوص حية تنبض بالحياة، مقبلة من خلف الواقع لتعبر عنه، تقوله بصيغ مختلفة ومتجددة. إنها الواقع بصيغة مغايرة، شأنه في هذا ما سعى إليه غويا عبر ذلك العنف الطاغي على أعماله، أو إكون شييل عبر شخوصه النحيفة والهزيلة، أو جيروم بوش عبر عوالمه السماوية والمأساوية، إلا أنه يصعب أن نقول إن الفنان عبد الرحيم إقبي قد تأثر بهذه الأسماء أو استلهم منها مواضيعه، حيث إنه إلى جانب امتلاكه لبصمته الخاصة، فهو استطاع أن يكوّن رؤيته الخاصة ومساره الفني بعيدا عن أي أكاديمية أو مدرسية، حيث أنه فنان عصامي اختار الرسم طريقة وطريقا للحياة.
٭ شاعر وباحث جمالي مغربي
عزالدين بوركة