المثقف «السلوقي»: بوقا سياسيا ومجهلا دينيا
[wpcc-script type=”05d4bd7031a0e817bff0f0b5-text/javascript”]
تعريف المثقف: سيكون البحث عن تعريف جامع للثقافة والمثقف، وفي إهمال دوره ووظيفته، أشبه باستعادة مريرة للمقال وخوضا في المخاض، ما يجعل هذا الجهد يفتقر إلى الأهمية لعدم راهنيته لقضية الساعة، من حيث أن الثقافة إنتاجا وترويجا وتنفيذا، هي إعادة لتثوير الأيديولوجيات والقيم الاجتماعية، على الأقل، حسب مفهوم غرامشي لها وتركيزه على عضويتها وعضوية المثقف، الذي لا ينفك عن المجتمع صائغا ومبلورا لرؤاه وتطلعاته في فهم واقعه وتقديم إجاباتٍ ناجعة عن التساؤلات العميقة الوجودية وغيرها من الثقافية البحتة، المرتبطة ببنية الإنسان وطريقة تفكيره ومواجهته للقضايا التي تشغله، وإذا كان، على سبيل المثال، جاك لوكوف يوسع من دائرة المثقفين لتشمل بدورها المهنيين، المنفذين للمفهوم في خلاف مع الغرامشية، التي تضيق الدائرة لتبدو كما لو أنها تختص بهؤلاء الذي يمتلكون قدرة فائقة على إبداع وابتداع المقولة، أو الفكرة وإخراجها من مواتها إلى حياتها، لتسند حالا معينة، أو تسهم في إضاءة زاوية معتمةٍ خدمة للذات، أو لمجموع الذين ينتمي إليهم المثقف، ومن خلالهم قام ببيئنة جهده، إذ سيكولوجيا تذهب الدراسات: أن لكل جماعةٍ مثقفيها!
جلد الذات (معرفيا)
ولأن الجدل يكاد لا ينتهي حول الثقافة تعريفا أو وظيفة، إلا أن أحد خصال المثقف يجمع عليها، وهي جلد الذات أو جلد البيئة التي يتحرك فيها ويجتهد لأجلها، وهذه البيئة ليست الآخرين بالضرورة، بل أن ذوات المجموع الذين يمثلهم المثقف، بوصفه قائدا معرفيا هي ذاته، أو هكذا يظن بفعل الهالة التي يحيط نفسه بها، ويحيطه بها جمعه المرتبط به، نظرا للخلاصية التي تتمثل في شغله، ولا يخلو الأمر هنا من انتهازية وكسبٍ من خلال الصورة المكبرة له، غير أننا مهما وجدنا لا نزاهة هنا لا يمكننا عزل (جلد الذات) عن السياق المعرفي والامتثال للريادة وروح القائد، الذي يرى في حاله وحال ناسه/ مجتمعه ما لا يرونه هم في أنفسهم، فهم حسبه إن لم يكونوا غوغاء وهامشيين ومتلقين للمعلومة فهم بالضرورة أدنى من إثارة أسئلة عميقةٍ قد تفضي إلى نتائج ستسهم في حل معضلة ما، وعليه سنميز بين وسطين أحدهما فرداني/ ذاتوي، يعتد بنفسه، وهو الأقدر على طرح الأسئلة واجتراح البديل، ووسط شبه متعطل أو حسب متلق، تبهره الفعالية، ويكتفي بالإبهار الذي تخلفه، فيطمئن بدون محاججة فعلية.
ما يحسب لهذا المثقف بكل التعالي المميز له، أنه مشبع معرفيا يتجاوز المهنية إلى الإبداع، ولذلك هو جالد لذاته وجماعته أكثر مما هو جالد للآخرين ومشاريعهم، ومقارناته دائما تتم وفق المفاضلة مع الأفضل والأكثر تطورا واستجابة للنظريات في حقول المعرفة عموما، أما ما يعيبه فهو إغلاق الباب أمام الحوار بين أعلى وأدنى، بين الواضح والهامش، بين المركز والأطراف، ما يترك الكثير من فتوحات هذا المثقف وهذه الثقافة محصورة في وسط ضيق، وهذا ما يكرس مفهوم النخبة وابتعادها عن هموم الجماهير، الذين هم بالضرورة الوسط الذي أخذت منه المادة وتوجهت إليه نهاية. ولا يمكن نعت النموذج هنا بالانحياز القطيعي، وبالتالي لن يكون بوقا سياسيا حين يجد الوقت وقت ذلك، ولا يتداخل مع الديني ولا يتشاكل معه إلا نديا، وإذا كان السياسي في مجتمعٍ سوريا الآن وفي خضم الحرب الآن، هتكتْ الأسوار بين التصنيفات، بحيث ذهب السياسي إلى الديني في زواج متعةٍ لتسويق مشروعٍ ما، فإن المثقف يقدم أطروحته التي لن تسمع، إذا أخذنا بأن جماعته التي يجلدها كلما جلد ذاته ذاهبة إلى القطيع الذي هو أساسا من سياسيين، يدعون التدين أو العكس من ذلك، لتبقى الثقافة الملومة لعدم تقديمها بديلها الموضوعي، بخفوت صوتها لصالح نصوص مجتزأة من القرآن أو الحديث، أو محاصرة ببنادق مأجورة، تنتقل من كتفٍ إلى أخرى، حسب الجهة الداعمة الممولة.
جلد الآخرين (السلوقية)
وإن ميزت في مقالتي هذه بين جالد للذات وآخر للآخرين، فقد أردت من ذلك التدليل، على أهمية المعرفة وأصالة الرأي، وإن لم يرض الآخرين، ولو كانوا الخاصة الداعمة لمجموع جهد المثقف والمبهورة به، هذا النموذج يخطئ، غير أنه ليس خطاء، فموقفه العام الذي ينسحب على كل حياته، يسم الموقف بالمشروع والاستراتيجية موضوعا وأخلاقا، ما يجعله في تمايز مطلق مع المثقف (السلوقي) والسلوقي هو كلب صيد، لا قيمة له خارج أوقات الصيد، ومستغنى عنه لجبنه ودناءته في خلافٍ مع الكلاب الحارسة، ويكاد هذا الصنف أن يكون متحكما في مادته، موهما الذين يعمل معهم باختلاف أيديولوجياتهم ورؤاهم، أن لا خلاف ولا وقيعة بينه وبينهم، فيعتمد عليه ويهد إلى صيدته من الآخرين المخالفين لمشغليه، وهذا خلاف آخر بينه وبين جالد الذات فإنْ كان هذا يرضي ذاته المتفقة أساسا مع الجذر المعرفي والمشاكلة والتساؤلات فإن كلب الصيد مجازا، يجلد الآخرين ويرضي آخرين (أولياء نعمته)، ويتماشى مع القطيع لأنه الوسط الهش الأسهل، والمصدق لما يأتيه، مما يحل المثقف (السلوقي) من مهام لا تتوفر في شخصه على الأقل سلوكيا وأخلاقيا.
نمذجة الإجراء للدلالة على العنونة
لعل الشخصيات وأحزابا بعينها قدمت نموذجها (المعارضاتي) حين كانت النار في بيوت الآخرين، وكانت ثورات البلدان الأخرى جزءا حيا من الشعارات، بل ومادة خصبة للفكر والتنظير والمقاربات التي وإن خجلا كانت تدل على وضاعة واستبدادية النظم الحاكمة في بلد الفاعل ثقافيا، أو اجتماعيا، سواء الذين انتظموا في أحزاب ومنها اليسارية المتمثلة في الشيوعيين، أو اليسارية المنهج والقومية التوجه، كالأحزاب الكردية أو الراديكالية المتأسلمة، كالأخوان المسلمين، وفي ما بعد «القاعدة» وتفريخاتها، انطلاقا من العقيدة والنصوص المساندة واللعبة المخابراتية للدول المهيمنة، أو الدول العميقة، وكذلك لعب النظام السوري على وترها، إذ أطلق سراحها وأرسل رسائله إلى إسرائيل وأوروبا بأن البديل عنه «القاعدة» والتطرف الذي سيهدد الأمن القومي لتلك الدول والسلام العالمي برمته، ولم يتوقف الاستثمار بين القوى المحسوبة على المعارضة والأخرى المحسوبة على النظام ومسانديه، بل سرى على مثقفين ومنتجين إبداعيين وفنيين، على سبيل المثال الأكثر فجاجة أدونيس، الذي لم يكتف بنقد ظاهرة خروج المظاهرة من المسجد إلى نقد الثورة، مستندا إلى نتائج ومغيبا الأسباب تماما، في تماهٍ تامٍ مع خطابٍ أحادي ينسجم مع التحالفات العديدة التي صارت ترى موضوع سوريا برمته حربا ضد الإرهاب وتصفية للجماعات المتشددة، تبعه في ذلك نزيه أبو عفش، أحد أهم الشعراء المتحدثين باسم الثورة والمخلص، في حين كان الممثل الذي أدهش المتعطشين للثورات على المسرح والتلفزيون والسينما، دريد لحام بفنه مخلصا للممثل الذي في داخله حياتيا، إذ تغنى بالسلطات القامعة، متناسيا تلك الثقة التي منحها له من آمنوا به وبمن سنده من الأثافي الماغوط وخلدون المالح. لا يتوقف سيل الانحدار الذريع على حساب الأخلاق عند هذا السد ليتعداه إلى تقديس البسطار العسكري، لما يترتب على هذا التقديس من إشاحة كاملة للوجه عن الإنسانية وتوقها وطموحها في المدنية ومآلاتها في صنع الحياة والمستقبل.
٭ شاعر وناقد سوري
محمد المطرود