المثقف ودوره في ظِل الأنظمة العربية: مواقف متوترة بين البحث عن سُلطة وتصفية الحسابات… والإصلاحيون مغضوب عليهم من الطرفين

القاهرة ـ «القدس العربي»: قد يبدو التساؤل حول المثقف العربي ودوره من الأسئلة القديمة، كما لمح بعض المشاركين في الرأي، بداية من الاختلاف حول تعريف ومفهوم المثقف، ووصولاً إلى أنه ليس منوطا به فعل القيادة، لأنه سيتحول بذلك إلى سُلطة. لكننا نسأل عن الواقع الفعلي، فالبعض يمتلك مجموعة من الأفكار ويرى وجاهة صوابها، وبالتالي الحث والبحث عن طرق تفعيلها، والبعض الآخر يزيد حسّه الديمقراطي، فيؤمن بتجاور الأفكار والرؤى، من دون الارتكان المطلق إلى إحداها، أو اعتمادها فقط، وإلا تحوّل الأمر إلى آفة التسلط والرؤية الواحدة، ولكن حتى هذه الروح التي تبدو في سماحتها من تجاور وتداول الأفكار، فهي تحلم بأن تتسيد وجهة نظرها المشهد في يوم ما، وقتها قد تسمح بهذا التجاور للأفكار المخالفة، أو قد لا تسمح. وهل يقتصر دور المثقف، أو الذي يحمل وجهة نظر ما على التفاعل مع الأحداث، كمحاولة للتغيير للأفضل، أو أنه يرى حريته في تصفية الحسابات مع المؤسسات الثقافية التي ترعاها الدولة والمثقفون الذين تحولوا إلى مؤسسات سلطوية بدورهم، والذين يعيشون ويحيون في كنف النظام السياسي؟ ربما توضح هذه الآراء الأمر أكثر...

المثقف ودوره في ظِل الأنظمة العربية: مواقف متوترة بين البحث عن سُلطة وتصفية الحسابات… والإصلاحيون مغضوب عليهم من الطرفين

[wpcc-script type=”dca4892869c04a36c9d42657-text/javascript”]

القاهرة ـ «القدس العربي»: قد يبدو التساؤل حول المثقف العربي ودوره من الأسئلة القديمة، كما لمح بعض المشاركين في الرأي، بداية من الاختلاف حول تعريف ومفهوم المثقف، ووصولاً إلى أنه ليس منوطا به فعل القيادة، لأنه سيتحول بذلك إلى سُلطة. لكننا نسأل عن الواقع الفعلي، فالبعض يمتلك مجموعة من الأفكار ويرى وجاهة صوابها، وبالتالي الحث والبحث عن طرق تفعيلها، والبعض الآخر يزيد حسّه الديمقراطي، فيؤمن بتجاور الأفكار والرؤى، من دون الارتكان المطلق إلى إحداها، أو اعتمادها فقط، وإلا تحوّل الأمر إلى آفة التسلط والرؤية الواحدة، ولكن حتى هذه الروح التي تبدو في سماحتها من تجاور وتداول الأفكار، فهي تحلم بأن تتسيد وجهة نظرها المشهد في يوم ما، وقتها قد تسمح بهذا التجاور للأفكار المخالفة، أو قد لا تسمح. وهل يقتصر دور المثقف، أو الذي يحمل وجهة نظر ما على التفاعل مع الأحداث، كمحاولة للتغيير للأفضل، أو أنه يرى حريته في تصفية الحسابات مع المؤسسات الثقافية التي ترعاها الدولة والمثقفون الذين تحولوا إلى مؤسسات سلطوية بدورهم، والذين يعيشون ويحيون في كنف النظام السياسي؟ ربما توضح هذه الآراء الأمر أكثر…

الإصلاحيون

بداية يرى الباحث الاجتماعي التونسي شكري الصيفي، أنه لا يمكن جمع كل المثقفين في خانة واحدة، أو سياق واحد في موقفهم من السلطة وفي تفاعلهم معها سلباً أو إيجاباً. وفي دورهم في النضال من أجل إصلاحها أو تأييدها وتبرير ما تقوم به. المشهد العربي عموماً فيه الكثير من التوجهات بين المثقفين، هناك من استسهل التأييد المطلق للسلطة بدون قراءة نقدية لما تقوم به، وقد يبرر ذلك بالحفاظ على الاستقرار والأمن قبل الولوج إلى الديمقراطية، والحقيقة ــ يقول الصيفي ــ إن الفوضى التي تعرفها المنطقة العربية قد تبرر هذا التوجه. الصنف الثاني من المثقفين مفرط في الثورية والرفض لكل ما يأتي من الحاكم.. أحياناً على خلفية برنامج أو إيديولوجية أو عقيدة، وأحيانا أخرى بدون برنامج ولا رؤية. وبين هذا وذاك نجد عدداً مهماً من المثقفين الذين من الممكن أن نطلق عليهم صفة الإصلاحيين، مسارهم نقدي يحاولون الإلمام بالمشهد والابتعاد عنه لمعرفة تفاصيله وتجاذباته بدقة، وتبدو الأقرب للواقع الثقافي والسياسي والفكري العربي الذي يشهد العديد من التحولات العميقة في بنية الدولة والمجتمع وفي صيرورة الأفكار وصراعاتها.

تغيير ما هو كائن

ويوضح المخرج السينمائي باسل رمسيس مفهوم المثقف من خلال دوره بقوله.. إن المثقف هو الشخص الذي يقوم بعمل ذهني ما، ينتج من خلاله أحد أشكال الوعي أو الإبداع الفني أو الفكري. هو الشخص المشتبك مع ما يحيط به عبر عملية معقدة من الرصد والمتابعة والتأمل، ومن ثم التحليل والفهم وإنتاج مُنتَج معين يشتبك مع الواقع، أي نوع من أنواع «الواقع»، ويطرح زوايا لفهمه. بالتالي فالمثقف ليس شخصاً حيادياً، بل إنه، مع منتجه، يعبران عن انحيازات اجتماعية وسياسية محددة. المثقف أو المثقفة لا يعملان في الفراغ ولا يتفاعلان مع الفراغ، وبالتالي فمن الطبيعي أن نجد المثقف المنحاز للسلطة والمثقف المنحاز لواحدة من الطبقات والشرائح الاجتماعية المتصارعة. هزيمة عملية التغيير الأخيرة التي عاشتها مصر خلال السنوات الأربع الماضية ترجع لأسباب كثيرة وشديدة التعقيد. من ضمنها دور المثقف الانتهازي، النصاب، السلطوي، الذي ادعى انحيازه لقيم الثورة أو الديمقراطية أو التغيير، بينما كان طموحه الوحيد هو الترقي في منصب أو الترقي في علاقته بهذه السلطة. وبالبطبع لدينا أمثلة كثيرة عن هذا النوع من المثقفين. وبالمقابل لدينا أمثلة أخرى للمثقفين الذين انحازوا إلى صفوف التغيير والديمقراطية والثورة والتقدم بصدق، ومن دون تزييف. انحازوا لصفوف المقهورين ومازالوا يلعبون دوراً في إنارة الطريق أمام هؤلاء. دور المثقف المنحاز لقوى التقدم ليس البحث عن مخارج أو حلول، دوره هو التفاعل بصدق مع القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير، وعن طريق هذا التفاعل يتم إبداع المخارج والحلول والمشاريع.

مثقفو الدولة

من ناحية أخرى يرى الشاعر محمود خيرالله الأمر من خلال الواقع الفعلي للحال الثقافي في مصر، من خلال المؤسسات الثقافية وأصنام الثقافة، الذين رغم الربيع العربي وتبعاته لا يزالون يتحكمون في مقدرات المناخ الثقافي، فيقول… لا أستطيع أن أتهم المثقف ـ أي مثقف ـ بالمسؤولية عن كل ما يحدث في بلاد العرب، أو أنه حين يتخذ مواقف موالية للسلطة بالذات، فإنه بذلك قد يكون متخاذلاً فجأة في حق الوطن، ولا أستطيع أن أستخلص من كل ذلك أنه يتحمل المسؤولية بالتالي عن كل ما يحدث، لا أعرف بالضبط لكنني أشعر بأن هذا السؤال قديم، وسوف أقترح سؤالاً جديداً، لا يحمّل مسؤولية كل شيء للمثقف، الذي أصبح «موالياً»، ولا يعتقد في الوقت نفسه أن مصائر الأمم ــ خصوصاً من العرب ـ يمكن أن تكون رهناً لـ»ضمائر» المثقفين ونواياهم، أياً كانت، إذا كنت تريد أن تكون منصفاً دعني أذكر القارئ الكريم أولاً بأن ثمار الربيع العربي، لم تسقط في يد أحد من المثقفين، إلا في يد تلك المجموعة التي ـ كانت ولا تزال وسوف تستمر ـ تستفيد من دولة وزارة الثقافة في مصر مثلاً طوال الوقت، مع بعض الاختلافات البسيطة في الأسماء والعناوين، مادامت شروط الإنتاج وسيطرة رأس المال وانتشار الرشوة والمحسوبية والفساد على كل مقاليد الأمور، بصورة أفدح مما كانت عليه، حتى قبل الثورة 2011 . لدينا في مصر شعراء لم تتم دعوتهم إلى حفلة شاي واحدة مع وزير الثقافة المصري منذ عشرين عاماً، بينما يتم استقبالهم ونشر ترجمة أعمالهم في المحافل الدولية، كأحد أبرز الشعراء العرب، وبالمناسبة، الدولة التي كانت تلهث وراء المثقفين لمقاومة الإرهاب ظلت تتعامل مع الشعر في مصر بعد ثورة يناير/كانون الثاني، على أنه إما شعر جماهيري مباشر وساذج، وإما شعراء عواجيز، من بقايا أحمد عبدالمعطي حجازي وأعوانه، الذين يسيطرون ـ في واحدة من الأقدار التعيسة للشعر المصري ـ من 1990 حتى اليوم ـ على كل ما يتعلق بالشعر في وزارة الثقافة، من دون أن يستدعي ذلك العجب من أي مثقف مصري، خلال سنوات ما بعد الثورة. أريد أن أقول إن بقاء المنتفعين من وزارة الثقافة لا يعني على الإطلاق أنهم يمثلون كل المثقفين، وبالتالي هناك من شارك في الثورة واكتوى بنيرانها ولم يكن قبلها أو بعدها يحصل ـ أو يتوقع أن يحصل ـ من الدولة على شيء. وزارة الثقافة المصرية لم تقم مهرجاناً شعرياً منذ عدة سنوات، حيث كانت الحجة هي ظروف الثورة، الآن يقال إن وزير الثقافة الحالي عبد الواحد النبوي، نفسه يكره الشعر، خصوصاً قصيدة النثر، وليس عليك إلا أن تنتظر مئة عام أخرى من الاستبعاد، إذا كنت تكتب هذه القصيدة.

المثقف المستقل

ويحدد الكاتب والروائي طلعت رضوان المثقف ودوره قائلاً.. أعتقد أنّ مشكلة شعبنا المصري وكذلك الشعوب العربية، غياب (المثقف) وفق التعريف العلمي لمفهوم المثقف، وأنا أعتبر أنّ الموجودين هم (مُـتعلمون كبار) محسوبون على الثقافة السائدة، لأنّ المثقف وفق التعريف العلمي «طليعة روحية لشعبه». والمغزى من هذا التعريف أنه يجب أنْ يضع الثقافة القومية لشعبه في المقام الأول من اهتماماته.. يعني يجب أنْ يكون على وعي بمجموع أنساق القيم ــ من سلوك وعادات وأمثال شعبية ومواويل ونكت/جمع نكتة وهي صحيحة لغوياً ــ الشيء الثاني يجب أنْ يكون من «المؤمنين» بعلمنة مؤسسات الدولة.. بمعنى فصل الدين عن السياسة.. وليس فصل الدين عن المجتمع كما يُروّج الأصوليون. الشيء الثالث أن المثقف الحقيقي يجب أنْ تكون بينه وبين سلطة الحكم مسافات.. بمعنى الاستقلال التام عن السلطة الحاكمة.. وهذا هو الشيء الوحيد الذي يجعل المثقف يكتب ما يعتقد بصوابه.. بعيداً عن رأي واتجاهات السلطة الحاكمة. وهذا الفعل هو ما يجعل لكتاباته مصداقية. ويهمني التأكيد على وجود بعض الاستثناءات أمثال الراحلين.. بيومى قنديل، خليل عبد الكريم، فؤاد زكريا، والمترجم والمفكر شوقى جلال من مصر، ومن الدول العربية المفكر السعودي عبد الله القصيمي، المفكر السورى صادق جلال العظم، والمفكر الكويتي الراحل أحمد البغدادي.. إلخ.

الدور التاريخي الموهوم

وأخيراً يرى الباحث وأستاذ التاريخ الحديث شريف يونس، أن هذا الموضوع تم تناوله كثيراً من قبل، ومشكلته أن المقصود بالمثقف أصلا غامض، والفكرة الضمنية التي ينطوي عليها السؤال خطأ. هذه الفكرة هي أن المثقف (أيا كان المعنى) فاعل مستقل وقائد أو معلم للشعب أو الأمة، وهو معارض بطبعه أو هذا ما ينبغي أن يكون، وأن له دورا تاريخيا، إما أن يقوم به أو يخونه. وبهذا المعنى، المثقفون في مصر، مثل أي مكان في العالم، موزعون بشكل طبيعي على التيارات الأيديولوجية والفكرية والسياسية القائمة في المجتمع، سواء كانت تيارات كبرى أو ناشئة أو آفلة. والثقافة هي مجال صراعي مثل غيره من المجالات الاجتماعية (السياسة، الاقتصاد، التربية، إلخ)، يتبادل التأثر والتأثير على هذه المجالات، ويتلخص دوره الجوهري في إضفاء المعنى وتعميقه ومناقشته وتعديله على هذه الشبكة الاجتماعية الهائلة من المجالات والأفعال. وبهذا المعنى، الثقافة هي جزء من البنية الاجتماعية، تحمل سماتها نفسها، بما في ذلك أمراضها ومزاياها. والمثقف قبل كل شيء هو جزء من هذه المنظومة أيا كان اتجاهه. ومثل كل عضو في أي منظومة، يقوم أيضا بتغييرها جزئيا، بإضافة أفكار أو نقد أفكار أخرى، أو إبداع عمل أدبي أو فني فارق، إلخ. فكرة أن «المثقف» يقود الأمة، و»دور المثقف» هي نفسها فكرة ابنة الاستبداد، باسم أي فكرة، قومية أو دينية أو طبقية أو عرقية أو مذهبية.
هنا تنتهي كلمات أصحاب الآراء المُشاركة في الموضوع، الذي سيظل دوماً يدور في حلقة مفرغة، فالمثقف بالمعنى الواسع للكلمة شخص يحمل وجهة نظر، وعليه تحمّل تبعاتها، قد يوالي هذا النظام أو ذاك، أو يتعامل بشكل فصامي من خلال رفضه للنظام السياسي وأفعاله، لكنه يتعامل مع مؤسساته من خلال دور النشر وإقامة الندوات، بل والحصول على جوائز من قِبل هذه المؤسسات! إضافة إلى محاولة الظهور بشكل يرسمه بدقة تجاه الآخرين، لكن في حالات أخرى نرى مدى السلطة التي يسعى إليها ويحاول فرضها على الآراء المخالفة، وأبسط شيء اتهام الرأي المخالف بسمة «الجهل»!! فالعديد ممن يتولون أو يتصدرون الخطاب الثقافي العربي ــ في الدور المرسوم لهم ــ يحملون آفة أن تحيا في مجتمع عربي، حالة دائمة من التردد والخوف، وما الحقائق التي يؤمنون بها، نجدها لا تقال إلا في محيط محدود من المقربين والموثوق بهم، ومَن كسر هذا الحاجز سيجد نفسه يقف وحيداً في مواجهة الجميع، سلطة الدولة وسلطة المثقفين الضائعة، هنا فقط يتوحد الطرفان ضد هذا الخارج عن النسق الذي يكفل الحد الأدنى من الأمان لهذين الطرفين.

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *