الموسيقى هي الحل
[wpcc-script type=”650eb402d2abc322b9b1480c-text/javascript”]
تمتاز الفنون بأنها تقدم دعما حقيقيا في الحياة، خصوصا في العصر الحاضر، حيث كل شيء سريع ومزدحم ومليء بالتوتر، إن لم يكن بالموت والألم.
وسط كل هذا تبرز الفنون بوصفها غذاء روحيا ودواء فعالا ضد كل ما يحيط بِنَا من سموم وآلام. ومنذ قديم الزمان كان الإنسان يلجأ في ساعات عزلته وأحزانه أحيانا إلى الفنون لتساعده على رسم الحياة بألوان ليست منها في الأصل. العزلة، الحزن، الألم، ضيق النفس وضغوط الحياة كلها يمكن مواجهتها بالفنون مجتمعة أو منفردة، فالرسم بألوانه المختلفة يدخل بهجة على الحياة، ويكفي لبيت بارد أن تزين جداره لوحة حتى يصبح دافئا وقابلا للتخيل. الموسيقى دواء مهم أيضا لكل هذا، فهي تستطيع اجتياح الحواس جميعها مرة واحدة، وبالتالي تقوم بتفريغ سريع للمشاعر السلبية في أجسادنا، وغالبا ما تطلق طاقة روحية عالية وإيجابية تقوم بفعل يشبه الترميم لداخل كل منا. قال روبرت براوننغ: «الذي يستمع للموسيقى يشعر بأن عزلته مأهوله في آن».
والحقيقة أن الإنسان منذ بدء الخليقة عالج عزلته باختراع الوسائل التي تصدر الأصوات الموسيقية، كما لجأ على سبيل المثال رعاة الغنم إلى ابتداع الناي من أخشاب الشجر، حيث يرعون أغنامهم وهناك كانوا يقتلون عزلتهم بصوت الناي ويستحضرون إلى حيث هم في البرية أصوات العالم، فيستغرقون في أنفسهم ويخرجون منها في الوقت نفسه إلى حياة أكثر حراكا، وكذلك كانت الأغنام أيضا ترعى وهي تشعر بأن هناك دائما ذلك الصوت الذي يرسم لها طريقها.
العزلة دائما تستنهض الصوت الآخر، أحيانا لتغطي على صوت أنا الشخص المنعزل، الذي يريد الفرار من استجواب نفسه والاستغراق في ديالوج داخلي قد يتعبه، والعزلة نتيجة لعوامل اجتماعية كثيرة، وقد تكون قرارا شخصيا لسبب ما، لكنها في النهاية تحيط المعزول بأناه وتجعله يعيش حركة متكررة مع نفسه، بإيقاع روتيني صعب يشبه إيقاع المسجون بين أربعة جدران.
وصوت الموسيقى عندما يكسر جدار العزلة يصبح صوت الحياة الفعلي، وقد يتجسد هذا الصوت في حياة مليئة بالبشر، بمعنى أن خيال الموسيقى بوسعه أن يستحضر إلى مكانها عشرات الأشخاص ويكسر صوت الصمت برهافة بالغة.
كما أن الموسيقى نفسها من الممكن أن تصبح جدارا للعزلة، بمعنى أن شخصا ما يقوم بالاستماع لها كي يؤسس وحدة يطغى فيها صوت الموسيقى، فما يعود يسمع أي صوت آخر عداها، حينها يحيط عزلته بحيوات كثيرة تقف بينه وبين الخارج فيدخل في تأملاته وفي حواراته بشكل مختلف تماما، فهو وحيد، لكنه في الوقت نفسه يحيا مع عشرات الأشخاص الذين تستحضرهم الموسيقى معها.
وفي اليوغا، يلجأ ممارسها إلى تسوير عالمه بصوت الموسيقى، التي تساعده على التركيز العالي، وتمنحه طاقة إضافية إيجابية، كما تبني بينه وبين ضجيج العالم الخارجي جدارا حاجزا، هكذا نرى «اليوغي» يدخل إلى نفسه ويستغرق في عالمه الداخلي، ويبدأ رحلة سلام داخلية عميقة ملونة، وتبدأ الألوان والرسوم في الانسياب إلى خياله، وتتفتح حواسه كلها، فيغلق كل شيء على نفسه ليصبح حالة متوقدة من الإيجابية والصفاء الداخلي.
الموسيقى عزلة مأهولة، وصداها بشري كامل يشبه أشخاصا لطفاء نريدهم أن يحلوا في عالمنا عندما نحتاجهم، وهذا لا يعني أنها حالة تعويض عن الخارج، لكنها تستطيع الموازنة في اللحظات القاسية لتعيدنا إلى رحم الحياة من رحمها هي، فنخرج من جديد بحلة جديدة يستطيب العالم وجودها.
هكذا وجدنا صوت الموسيقى هو أول أصوات الطبيعة، ومنها تعرفنا إلى كل ما يدور حولنا، فليس من داعٍ لأن نرى المطر حتى نعرف أنها تمطر، يكفينا أن نستمع إلى صوت الرعد لنعرف أن المطر سينهمر من السماء بعد قليل، ويكفينا أن نستمع إلى صوت المطر الخفيف على النوافذ لندرك أنها تمطر، ويكفينا أن نستمع إلى حفيف الشجر لنتعرف إلى شدة الرياح أو إلى خفة حضورها كنسمات خفيفة، ويكفينا أيضا أن نستمع إلى عازف ناي فنتعرف إلى ما يشعر به، ويكفينا أن نستمع إلى أصوات الأمهات وهن يدندن قبل النوم لنتعرف إلى الطمأنينة في قلوبنا.
وإن قيل «قل لي بماذا تفكر لأقل لك من أنت»، أقول أنا قل لي ماذا تسمع لا لأقول لك من أنت فقط، بل لكي أفهمك تماما، وأدخل إلى نفسك واستجلي حالة روحك، فموسيقاك تكشف كل شيء فيك، وتشبه مرآة قد لا تراها أنت ولكن بالتأكيد سيراها الكثير من حولك.
موسيقي عراقي
نصير شمه