الناقد السوداني عز الدين ميرغني: الأدب النسوي يتوقف على موضوعه دون كاتبه
[wpcc-script type=”baeccbe9010daf8028ad0efe-text/javascript”]
يُعد عز الدين ميرغني من أهم وأبرز الأقلام النقدية السودانية المعاصرة. وهو ناشط ثقافي، ويكتب في عدة دوريات، كما يدير البرامج الثقافية في قناة أم درمان الفضائية. صدر له: «البنية الشخصية في أدب الطيب صالح دراسة في روايتي موسم الهجرة إلى الشمال وعرس الزين»، كما صدر له: «موسوعية المعرفة وجماليات اللغة في ديوان حاج الماحي»، ويكتب ميرغني القصة بجانب اشتغاله بالنقد، كما يترجم من وإلى الفرنسية. أدناه حوار يستعرض رؤاه النقدية نطل من خلاله على المشهد الثقافي السوداني.
■ بداية كيف تصف العلاقة بين المبدع والناقد؟
□ النقد هو حارس بوابة الإبداع المخلص والوفي، فهو لا يبتغي غير أن تكون مملكة الإبداع، خاصة في الكتابة الأدبية، قوية وذات أسس راسخة، ومعايير تتقدم بها للأمام، ولا تؤخرها للوراء. والنقد ينبغي أن يفتح الباب للمبدع الحقيقي بدون وصاية أو تفرقة، وأن يتصدى لمن لا يملكون المعايير والأسس التي يتوافق عليها النقاد. ولولا هؤلاء السدنة من النقاد لأصبحت الكتابة مبتسرة ومجانية، وبدون بطاقات تجنيس أو هوية. فالنقد ينير الدروب لكي تكون هوية الكتابة معروفة ومؤصلة وليست نبتاً شيطانياً، أو استسهالاً مجانياً. وإذا اتفقنا على هذا الدور المهم الذي ذكرتُه للناقد في صون وحراسة هذه المملكة العظيمة، فإن جسر التواصل بين الناقد والكاتب يكون مُعبداً والتواصل سهلاً، وقبول الأحكام النقدية مقدراً ومحترماً. رغم أن أحكام الناقد ليست حكماً لا يقبل الطعن والاستئناف، وإنما قد يكون هادئاً ومرشداً ومنبهاً للأخطاء، خاصة إذا ابتعد عن التجريح والإسقاطات الشخصية، فالناقد بشر يخطئ في موازينه النقدية مثل ما يخطئ الكاتب في موازينه الإبداعية.
■ وإلى أي مدى تستجيب لذاتك وذائقتك مقابل مناهج ونظريات النقد وقوانينه؟
□ الناقد بالطبع له، بل يجب أن تكون له ذائقته الخاصة، وهذا ما عناه الطيب صالح بالمحبة، والمحبة هي الذائقة الخاصة والإيجابية نحو نص ما، على شرط ألا تخرج هذه الذائقة أو المحبة عن معايير الكتابة في الجنس الأدبي، وليس كل ما يعجب ذائقة الناقد يجب أن يكتب عنه، فليس كل فتاة جميلة يكتب فيها الشعر. والناقد عندما يمسك القلم، يجب أن يخضع للمعايير النقدية سلباً أو ايجاباً، مع العلم أن الناقد الواعي يمكن أن يستلهم الكثير من دروب النقد في النصوص الجيدة، لذا دائماً ما أقول إن النص الجيد يملك في داخله مفاتيحه التي يطل منها القارئ عليه ناقداً أو غير ناقد.
■ ما هي أهم المفارقات التي تشهدها الساحة الثقافية السودانية اليوم؟
□ لا شك في أن الساحة الثقافية السودانية شهدت وتشهد العديد من المفارقات والتغيرات، ولها أسبابها السالبة والموجبة بالطبع، فنحن أمة عرفت بحب القراءة والاطلاع، ومواكبة كل جديد في دروب الفن والإبداع. فظهر الصوت النسائي الأدبي في كل دروب الكتابة والأدب، وحتى في حصد الجوائز ومنافسة الصوت الرجالي، ثم دخول الشباب بكل مراحله في مغامرة الكتابة، خاصة في الرواية، بحيث أصبحت كتاباً مفتوحاً يعبر فيه الكاتب أو الكاتبة عن مشاكل مجتمعنا بحرية فيها الكثير أحياناً من الخروج من أعراف المجتمع وتصل حتى التمرد على المعتقدات والأديان. ولعل الفضاء الإلكتروني أزال الحدود والقيود واعتبر البعض بأن هذه الحرية الإسفيرية يمكن أن تكون حتى داخل المكان والزمان الذي يعيش فيه، ناسياً أن المكان له قيوده وموانعه. وهذه من المفارقات الجديدة في الثقافة السودانية.
■ هل تؤيد الصوت القائل بتصدر الشاعرات للمشهد الشعري السوداني دوناً عن الشعراء؟
□ لا أعتقد بأنها مسألة تصدّر أو مسألة إزاحة أو إبدال، فالنقد لا يعترف بغير النصوص والشعر الجميل، سواء كان من الرجل أو المرأة، ولكن ولأن الصوت الشعري النسائي كان غائباً أو مغيباً لمدة طويلة، وكان هامساً ومتوارياً خلف أغاني البنات، التي لا تُعرف كاتبتها، وفجأة بعد هذا الصمت الكبير الذي غطى عليه الشعراء الكبار من شعراء التفعيلة في السبعينيات وما قبلها، ولم تظهر شاعرة كبيرة تجاريهم وتماثلهم، وفي نهاية الثمانينيات بدأت تظهر الأصوات الشعرية النسائية، وبدأ القارئ يهتم بها ويفسح لها المجال لسماحة المجتمع السوداني، خاصة في المدن وانتشار التعليم فأصبح الصوت الشعري النسائي شبه مدلل حتى تُعوض ما فاتها من غياب أو تغييب. وقد ساعدت في ذلك وسائل الإعلام بكل أنواعها حتى يستمع الناس لهذه النغمات الشعرية ذات الخطاب الرقيق والجديد، ولعل بعضنا يجد فيه نوعا من الحنان والعاطفة التي يحلم بها البعض من الرجال ولا يجدها في الحقيقة!
■ في رأيك هل هذا التصدر إعلامي فقط أم إبداعي شعري؟
□ بعضه يمكن أن يكون إعلامياً فقط، فالبعض من الشاعرات وجدن فرصهن في الإعلام أكثر من غيرهن، رغم أن الظهور الإعلامي قد يكون سانحة لظهور أصوات شعرية جيدة، لأن وسائل النشر المكتوب ــ وأعني بها طباعة الدواوين قد تكون صعبة ومكلفة ــ وظهور الشاعرة فجأة بديوان مكتوب بدون الظهور أمام الإعلام قد يحرق الشاعرة وحتى الشاعر، لأن القارئ عندنا لا يسعى لمعرفة الأصوات الشعرية ويكتشفها بنفسه، وإنما يريد أن يكتشفها له الآخرون. والآخرون هم الأجهزة الإعلامية المسموعة والمرئية. ولكن هذه الحرية التي أتاحها الرجل متمثلاً في المجتمع للشاعرة في حرية الكتابة والظهور، جعل الكم على حساب الجودة، فأكثر الأصوات الشعرية النسائية تستنسخ كتابات غيرها، بل تقلد الشاعر الرجل، لأن المرأة نادراً ما تقلد اختها في الإبداع. ولا يخلو ذلك الاندياح الشعري النسائي من وجود أصوات مميزة ولها طعمها الخاص والممتع الذي قد يفتح دروباً جديدة في نقد الشعر وتحليله. وهي حرية ستفيد ولن تضر لأن النصوص الجيدة تفرض نفسها.
■ ما زالت هنالك شاعرات يكتبن بخطاب المذكر بم تفسر هذا؟ وهل أنت مع قضية تصنيف الأدب من حيث مبدعه؟
□ نعم لا تزال هنالك من الشاعرات من يكتبن بخطاب المذكر، وهو نوع من التقية في الكتابة، ولا يزال الخوف والرقابة كامنين في النفوس ومن الصعب محوهما بسهولة وهذا يحتاج إلى زمن، رغم خفوتهما ولكنهما موجودان، بل حتى الآن توجد من تكتب الشعر وتنشره باسم مستعار وهي ظاهرة ليست موجودة في بلادنا فقط، وإنما موجودة في كل البلاد العربية. أما تصنيف الأدب إلى رجالي ونسائي من الناحية الفنية، فهذا ما لم تنادِ به مدارس النقد النسائي، فالتصنيف ليس تصنيفاً فنيا، وإنما التصنيف يقصد به الموضوع وليس الشكل الفني، فالمرأة يمكن أن تكتب ما لا يستطع الرجل كتابته، فخير من يكتب المرأة هي المرأة، وهذه محمدة وليست منقصة، وهذه المواضيع الخاصة يحتويها الشكل المتعارف عليه في الشعر أو القصة والرواية، وهي معايير فنية لا تفرق بين القلم النسائي أو الرجالي، وهذه الفنية أو الشكل يمكن أن تجيده المرأة أو تخفق فيه مثلها مثل الرجل، وليس كل ما تكتبه المرأة هو أدب نسائي، فقد تكون كتابة عادية، يمكن أن يكتبه الرجل وأعني بها المواضيع العامة والمشتركة، ولكن حتى المواضيع العامة والمتاحة للاثنين يمكن أن تصيغها المرأة بلغة البوح الخاصة والتفاصيل الأنثوية الدقيقة فيمكن أن تدخل في مدرسة الأدب النسائي.
■ كيف تصف حضور المرأة في خطاب الرجل الشعري، وفي المقابل كيفية حضوره في خطابها؟
□ المرأة في خطاب الرجل الشعري في السودان أكثر حضوراً بالطبع منه في خطابها، خاصةً في شعر الغزل، فهي الحبيبة الملهمة وهي زاد الكتابة ودافعها الأول. وبقدر ما يوجد الوصف الحسي والجسدي للمرأة الحبيبة، فالوصف العذري له حضوره الأقوى والأسمى، فغالباً ما تكون علاقة الشاعر بالمخاطبة علاقة ترنو إلى آفاق روحية عميقة أقرب إلى التصوف. فلا يكون الشعر أو الخطاب مبتذلاً، ولا سوقياً، في الغالب طبعاً. وقد توجد بعض الفلتات، فالشعر لا يخضع لقوانين المجتمع عند كل الشعراء. أما حضور الرجل في خطاب المرأة الشعري في السودان، فهو مميز وله منهجه واختلافه. فهو خطاب قديم يتجلى في شعر المديح للرجل الفارس والشهم والفخر به، الذي تريده المرأة الشاعرة ذخراً ونجدة وقت العوزة و«الحوبة»، ويظهر هذا جليا في شعر المراثي والمناحات القديمة. ولم يتغير وصف المرأة للرجل كثيراً في خطابها الشعري الحديث، فتحس في شعر الكثير من الشاعرات المعاصرات بأن الشاعرة تبحث وتخاطب الرجل النموذجي الذي يتحلى بكل صفات الفروسية القديمة، حتى لو كان من تبحث عنه حلماً وخيالاً.
■ في ظل انتشار ظاهرة كتابة السيرة الذاتية والمذكرات، هل نستطيع كعرب كتابة سيرنا الذاتية كالغربيين؟ وما القيمة التي تشكلها هذه الكتابة للأدب العربي؟
□ هذه ظاهرة حميدة وليست ظاهرة سالبة، فالسيرة الذاتية أو الغيرية هي كتابة توثيقية لشخص قد يكون دوره في المجتمع كبيراً ومقدراً ومفيداً ونافعاً لغيره. فنحن أمة ضرتنا الشفاهية وغياب التوثيق والتدوين كثيراً، فضاع حتى تاريخنا القديم والحديث، وصرنا نأخذ مصادرنا من كتابات غيرنا، وهي ليست كتابات محايدة، بل أغلبها قد يكون ذا غرض.
وقطعاً فإن الإقبال الشديد على الكتابة له مضاره، خاصة أن ليس كل صاحب سيرة خاصة، حتى لو كانت غنية في حياتها وفي ثراء تجربتها، قادرا على فنيات الكتابة ولغتها ودروبها الوعرة، لذا تخرج بعض السير ضعيفة وركية أدبيا، وبعضها فيها الأنا كبيرة ومتضخمة، وقد تكون مليئة بالبطولات الزائفة والحقائق الكاذبة، بل قد يجنح البعض للإساءة والتبخيس لغيره.
حوار: منى حسن: