الواسطي ومدرسة بغداد للرسم في القرن الثالث عشر

قام الإسلام والمسيحية بتحريم تصوير الإنسان عن طريق الرسم أو النحت أو النقش، ولكن الكنيسة المسيحية قامت بتغيير سياستها في القرن الثالث، وأخذت تستعمل تصوير الإنسان لأغراض تبشيرية. أما بالنسبة للإسلام فإن الأمر كان مختلفا، فعلى الرغم من استمرار التحريم وعدم وجود أي دليل عن أي نشاط لتصوير الإنسان في عهد الخلفاء الراشدين، فإن الأمور كانت مختلفة في العهد الأموي والعباسي.

Share your love

الواسطي ومدرسة بغداد للرسم في القرن الثالث عشر

[wpcc-script type=”8bc8378301330ae354d1b6b7-text/javascript”]

قام الإسلام والمسيحية بتحريم تصوير الإنسان عن طريق الرسم أو النحت أو النقش، ولكن الكنيسة المسيحية قامت بتغيير سياستها في القرن الثالث، وأخذت تستعمل تصوير الإنسان لأغراض تبشيرية. أما بالنسبة للإسلام فإن الأمر كان مختلفا، فعلى الرغم من استمرار التحريم وعدم وجود أي دليل عن أي نشاط لتصوير الإنسان في عهد الخلفاء الراشدين، فإن الأمور كانت مختلفة في العهد الأموي والعباسي.

الدولة الأموية

هناك بعض الأدلة التي تشير إلى أن الأمويين رسموا في بداية سلالتهم في قصورهم الواقعة خارج المدن، ولكن تطور تصوير الإنسان في ذلك العهد كانت له أسباب سياسية واقتصادية. فقد استلم الخليفة عبد الملك بن مروان (646 – 705) الخلافة في الثاني عشر من أبريل/نيسان عام 685، وكانت الدولة الأموية في حالة سيئة، حيث عانت من اضطرابات داخلية، كان من الممكن أن تجلب كارثة ساحقة للدولة. ومما هو جدير بالذكر أن العملة الأكثر استعمالا في الدولة الأموية كانت العملتين الفارسية الساسانية والرومية البيزنطية، بالإضافة إلى ذلك فإن الدولة الأموية كانت تدفع أتاوة سنوية للروم البيزنطيين، مقابل عدم هجوم الروم عليهم، وضمان حدودهما المشتركة حسب معاهدة معهم، واعتبر هذا إهانة سياسية للدولة الأموية وضربة لاقتصادها الوطني. وتمثل هذه المصاعب في أغلب الدول المراحل الأولى لانحلال الدولة وانهيارها، ولكن عبدالملك بن مروان لم يكن من الرجال الذين يقبلون بهذا، كما أنه لم يكن رجلا ذا أفكار خيالية، بل رجلا عمليا يعرف كيف يستغل الفرص، ولذلك قام هذا الخليفة الأموي بإجراءات سريعة لدحر كل القوى الداخلية التي كانت تهدد الدولة، وتوحيد البلاد تحت قيادته، وقام بإصلاحات اقتصادية مهمة تكللت عام 691 بأصدار عملة جديدة سماها الدينار، ومنع استعمال العملتين الساسانية والرومية. ولم يكن الخليفة يمزح في هذا المنع، فقد كانت عقوبة من يتجرأ ويخالف هذا المنع، الإعدام. وأمر عبدالملك أيضا بأن تسك العملة الجديدة في دمشق تحت أشراف دقيق من قبل الدولة. ولم يتقبل الإمبراطور البيزنطي جستنيان الثاني (685 – 711) هذه الإجراءات وكانت أكثر مما كان يستطيع احتماله، لأنها كانت ضربة موجعة للاقتصاد والتأثير السياسي للروم البيزنطيين، وأظهرت الدولة الأموية كقوة اقتصادية عالمية في تلك الفترة، ولذلك قرر الإمبراطور الرومي شن الحرب على الأمويين، ومما شجعه على ذلك كان انتصاراته الكبيرة آنذاك في أوروبا الشرقية. وقام هذا الامبراطور الرومي بالاستعانة بجيش إضافي مكون من ثلاثين ألفا من السلاف المرتزقة الذين جلبهم من شرق أوروبا لدعم جيشه. أما الأمويون، فقد كان هذا مفاجأة مزعجة جدا لهم، فالدولة في طور التعافي من أمراضها الكثيرة، والجيش ليس في أفضل حال، كما لم تكن لدى الأمويين أي نية للدخول في مواجهة عسكرية مع البيزنطيين، ولكنهم وجدوا أنفسهم أمام تحدي الروم مكرهين. ووضعت مهمة قيادة الجيش الأموي على عاتق محمد بن مروان، الأخ غير الشقيق للخليفة الأموي. وعندما التقى الطرفان عام 1692 ميلادية رفع الأمويون نسخا من المعاهدة التي كانت بينهم وبين البيزنطيين عوضا عن الأعلام المعتادة، مذكرين البيزنطيين بها، ولكن بدون جدوى، فقد عزم البيزنطيون على القتال واشتبك الطرفان في معركة «سيباستوبوليس» الحامية الوطيس. وسرعان ما أحس الأمويون بأن المعركة لم تكن تتطور لمصلحتهم، وأن نهايتهم باتت وشيكة، وكان من الأفضل اللجوء إلى فكرة بعيدة عن كيفية قيادة المعركة. ولذلك اتصل الأمويون بقادة الجيش السلافي المرتزق، الذي كان يقاتل إلى جانب البيزنطيين، واستطاعوا أن يتوصلوا إلى اتفاق مالي معهم مفاده انقلاب السلاف على الروم مقابل مبالغ متفق عليها. وانهال الأمويون والسلاف على الجيش البيزنطي الذي نال هزيمة منكرة. وأدى هذا الانتصار إلى استمرار الخليفة في سياسته، وفي عام 694 ميلادية قام بسك عملته الشهيرة باسم الدينار الذهبي وصورته منقوشة على أحد الجانبين كما هو موضح أدناه. وبهذا كسر عبدالملك بن مروان مبدأ تحريم التصوير.

صورة الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان على عملة الدينار الذهبي الذي أصدرته الدولة الأموية عام 694 ميلادية

وبذلك نجد أن الخليفة الأموي يأمر بوضع صورته على العملة الوطنية. ونرى على هذا الجانب من العملة صورة الخليفة ويده على مقبض سيفه وحاملا سوطا ويرتدي لباسا عربيا تقليديا. وعلى الرغم من تفسير البعض أن أمساك عبدالملك بن مروان لسيفه يعد رمزا للإمامة، فإن آخرين يفسرونه على أن ذلك ووجود السوط رمز لهيبة الدولة وقوتها، أي أن الدولة الأموية تستعمل رسم إنسان كرموز لها. وقد لاقت العملات الأموية نجاحا كبيرا وكانت نسبة الذهب العالية فيها وحجمها الكبير نسبيا دليلا على قوة اقتصاد الدولة الأموية.

الدولة العباسية

أما الدولة العباسية، فقد شهدت تطورا مختلفا في مجال الرسم، حيث عثر على رسوم تمثل أشخاصا على جدران بعض القصور العباسية في سامراء. ولكن التطور الحقيقي حصل على عدة مراحل، وفي اتجاهات مختلفة، لتلتقي بعد ذلك وتنتج عملا عظيما. ففي النصف الثاني من القرن العاشر أسس العالم العربي اللغوي والأديب بديع الزمان الهمذاني (969 – 1008) نوعا جديدا من الأدب وهو المقامات، التي تعتبر حاليا من روائع الأدب العالمي. والمقامة قصة قصيرة مكتوبة بطريقة شعرية متطورة، تعكس نواحي الحياة في العصر العباسي في العراق. وتدور أحداث مقامات الهمذاني حول متشرد يستعمل ذكاءه لتأمين حياته اليومية، ولكن مقامات الهمذاني لم تكن قصصا مكتوبة بلغة الأطفال، بل مثلت أرقى أنواع التعبير اللغوي في ذلك الوقت. وقد ألف الهمذاني أربعمئة مقامة وبقي منها اثنان وخمسون حاليا. واستمر أدب المقامات بالتطور حتى وصل إلى قمته على يد الشاعر العربي وعالم اللغة العربية محمد الحريري البصري (1054 ـ 1112) والذي ألف مقامات الحريري الشهيرة، التي أعتبرت أفضل ما كتب في مجال المقامات. وتدور مقامات الحريري حول روايات رواها الحارث بن همام عن بطل يدعى أبو زيد السرّوجي ومغامراته المثيرة، التي ينتقل خلالها من مكان إلى آخر في العالم. وتذكر المقامات أشهر مدن ذلك الوقت مثل بغداد والموصل والبصرة، وكذلك دولا في المنطقة مثل اليمن.
وكان قد ظهر فن تزيين الكتب منذ القرن الثامن، خاصة في بغداد، وتطور هذا الفن ليتحول في القرن الثاني عشر إلى مدرسة فنية ركزت على إنتاج الرسوم التي توضح ما تحاول الكتب شرحه وما تحويه قصص المقامات، وسميت مدرسة بغداد للرسم. ولم يكن العاملون في هذا المجال أفرادا هواة منعزلين، بل إنهم خريجو دورات تعليم وتدريب منظمة منذ نعومة أظفارهم، ويشرف عليها أهم العاملين في ذلك المجال. ورافق هؤلاء الرسامين النساخون والوراقون، أي كل من عمل في مجال التأليف ونشر الكتب آنذاك، في تعاون مهني فريد من نوعه. وبلغ تطور هذه المدرسة ذروته عن طريق الفنان العربي يحيى بن محمود الواسطي، الذي ولد في واسط وعمل في بغداد وقام برسم ستة وتسعين رسما لتوضيح مقامات الحريري عام 1237. وأصبح كتاب الحريري أهم الكتب الأدبية والفنية في العصور الوسطى لعظمة قصص المقامات وروعة رسومه، حيث مزج فيه أشهر أمثلة الأدب وفن الرسم في ذلك الوقت. ومن الواضح أن الواسطي لم يكن مجرد رسام ماهر، بل كان مثقفا كبيرا وضليعا في اللغة. واستعمل الواسطي طريقة فريدة من نوعها في حشر أكبر كمية ممكنة من التفاصيل في مساحة صغيرة للغاية لشرح تفاصيل قصص المقامات. وتعتبر الرسوم نابضة بالحياة ونافذة بالغة الأهمية نرى من خلالها تفاصيل حياة العراقيين في القرن الثالث عشر، فنحن نرى الناس يتجادلون ويتاجرون ويسافرون ويأكلون. وقد رسم الواسطي النساء والأطفال وحياة القرى وحتى الحيوانات، كما نرى ملابس الناس في أدق تفاصيلها، ولذلك تعتبر الرسوم ذات أهمية تاريخية قصوى لدراسة عالم القرن الثالث عشر في الشرق الأوسط. وتميزت رسوم الواسطي أيضا بألوانها الزاهية، ولا عجب في ذلك فقد كان الواسطي يصنع هذه الألوان بنفسه. وعكست رسوم الواسطي بشكل خاص تصوير الحدث نفسه وحركة أجسام الأشخاص، كما أنها توضح الشخصية الرئيسية في الرسم عن طريق تلوين ملابسها بألوان مختلفة أو إظهاره أكبر حجما من الآخرين. وتوجد عدة نسخ أصلية للكتاب الذي يضم مقامات الحريري ورسوم الواسطي، وأفضلها موجود في المكتبة الوطنية في باريس. ويعتبر الواسطي أيضا أقدم رسام معروف وذي أعمال موجودة حاليا، فعلى الرغم من وجود رسامين سبقوه، فإننا لا نعرف أسماءهم. وقد انتشرت رسوم الواسطي ومقامات الحريري انتشارا واسعا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وإسبانيا آنذاك.
و قد عاصر الواسطي مجموعة من ألمع الأسماء الثقافية والعلمية في عصره مثل المؤرخ ابن الأثير والمهندس ابن الرزاز الجزري والأديب ياقوت الحموي.
ويدل بروز مدرسة بغداد للرسم على وجود جو مستقر من النواحي السياسية والاقتصادية والأمنية، حيث عاصر الواسطي الخليفة العباسي المستنصر بالله (1192 ـ 1243) الذي كان قد سار على نهج والده، وقبل ذلك جده الخليفة الشهير الناصر لدين الله (1158 ـ 1225) الذي نجح في إرساء الدولة العباسية من جديد وإعادة هيبتها والتخلص من النفوذ السلجوقي، ببناء قوة عسكرية كبيرة واستقلال سياسي. وقد تميز عهد المستنصر بشكل خاص بازدهار كبير في شتى المجالات العلمية والثقافية، وقام بتأسيس مدرسة المستنصرية الشهيرة. وعندما توفي المستنصر بالله عام 1243 كان أفضل من يخلفه أخاه الذي لم يكن يقل شجاعة وكفاءة عنه، إلا أن النافذين في الدولة خشوا أن يضر بمصالحهم، فحيكت المؤامرات لتنصيب ابن المستنصر الضعيف المستعصم، الذي تميز عهده بالضعف حتى اجتاح المغول بغداد عام 1258 وينتهي العصر العباسي، وكل ما تميز به من حضارة وفنون. ولكن مدرسة بغداد للرسم لم تمت بتلك السرعة، حيث كانت مصدر الفنون المغولية والهندية والفارسية والعثمانية بعد ذلك.
والغريب في الأمر أن القائمين على صناعة السينما والتلفزيون في العالم لا يستعينون برسوم الواسطي وغيره عندما يصورون حياة العباسيين، بل يعتمدون على خيال المستشرقين الذين اعتمدت أعمالهم على خيالهم أكثر من الحقائق التاريخية.

من رسوم الواسطي في كتاب مقامات الحريري

لم يكن هؤلاء الفنانون من أمثال الواسطي ينتجون كل هذه الأعمال الفنية الموجهة للطبقة المثقفة آنذاك كعمل خيري، بل كانوا يرتزقون من عملهم، وإذا اخذنا العدد الكبير من المشتركين في هذا الأنتاج الفني، فإننا نستنتج وجود سوق كبير للطبقة المثقفة، التي كان مستواها الاقتصادي يشجع على ازدهار هذه الفنون. ولم تكن مدرسة بغداد للرسم الوحيدة في الشرق الأوسط في تلك الفترة، فقد كانت هناك أيضا مدرسة الموصل التي اختصت بإنتاج المصنوعات المعدنية الفنية، التي اعتمدت على النحاس أو البرونز المرصع بالذهب أو الفضة. وبعض إنتاج هذه المدرسة لا يزال موجودا حاليا وأسماء بعض فنانيها معروفة.
لقد كان عمل الخليفة عبدالملك بن مروان والواسطي وغيرهم يدل على تسامح واضح من قبل الطبقات الحاكمة والمثقفة العربية آنذاك، وانفتاح عقليتهم، فلم يعترض أحدا على أي عمل فني شمل تصوير الإنسان آنذاك.

٭ مؤرخ وباحث من العراق

الواسطي ومدرسة بغداد للرسم في القرن الثالث عشر

زيد خلدون جميل

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!