الوثائقي «أم كلثوم… صوت يُشبه مصر»: مرثية طويلة لعصر النهضة المصرية
[wpcc-script type=”d4ef9eaf0aba00d8352216e9-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: واكب الفيلم الوثائقي «أم كلثوم.. صوت يُشبه مصر» لمخرجته الأمريكية ميشال غولدمان» الذكرى الأربعين لوفاة أم كلثوم (31 ديسمبر/كانون الأول 1898 ــ 3 فبراير/شباط 1975).
ورغم أن إنتاج الفيلم يعود لعام 1996 ــ 67 دقيقة ــ إلا أنه يُعرض جماهيرياً للمرّة الأولى في مصر، ضمن مهرجان «جاز وأفلام» في دورته الأولى، الذي يحاول أن يجمع بين موسيقى الجاز والفيلم السينمائي، كما أشار مدير المهرجان الناقد والمخرج صلاح هاشم، والذي أقيم في سينما نادي الجزويت في القاهرة. كتبت سيناريو الفيلم الباحثة الأمريكية فيرجينيا دانلسون، المتخصصة في موسيقى تراث الشعوب، وهو عن كتاب لها يحمل اسم الفيلم نفسه، تتبعت فيه صعود أم كلثوم ووصولها إلى العالمية. شارك من مصر كل من مدير التصوير كمال عبد العزيز، وشاركت شركة مصر العالمية بتقديم الصور واللقطات الأرشيفية، إضافة إلى تنفيذ العمليات الإنتاجية للفيلم.
الفيلم حاز العديد من الجوائز، أهمها جائزة أفضل فيلم تسجيلي قصير في مهرجان شيكاغو الدولي عام 1997.
كثير من الأفلام التي تناولت أم كلثوم، سواء كانت أعمالا روائية أو وثائقية، أو دراما تلفزيونية، إلا أن الفيلم هنا تجاوز مرحلة التوثيق بخلقه حالة درامية يسعى إليها كل عمل فني جاد. حالة مجتمع، وحالة نهضة، وحالة وعي. امرأة تأتي من ريف مصر، تشبه الكثيرات من بنات الريف، وتصبح رمزاً يلتف حوله الجميع.
أشار الفيلم إلى نهضة نسائية في بدايات القرن الفائت، صحافيات وممثلات وسياسيات، ولكن السؤال يظل في أيهن كان لها التأثير الأكبر في حياة الناس؟! حتى الآن نستمع لأغنيات أم كلثوم ونرددها بيننا وبين أنفسنا، نسمعها في المواصلات العامة، والمقاهي الشعبية، والموالد، ومقاهي الصفوة وجلساتهم، وأصوات شابة تتحسس خطواتها في عالم الغناء تترنم بأغنيات الست أم كلثوم. تغيّرت البنى الاجتماعية من الأربعينات والعهد الملكي، ثم حركة يوليو 1952، وهزيمة 1967، وأكتوبر 1973.
المحطات التاريخية للأسف علاماتها تبدو من بعيد كحوادث سياسية في المقام الأول، لكن صوت أم كلثوم لم يغب عنها ولو للحظة. فمسيرتها تشبه بالفعل مسيرة المجتمع المصري، محاولات نهوضه ووعيه، وصولاً إلى حفلتها الأخيرة وقد خانها صوتها على المسرح للمرّة الأولى، فلم نسمع منها سوى حشرجة الاختناق بالبكاء. ها هو عهد ينقضي، وزمن أمامها يمضي بلا رجعة، وهو زمننا نحن. لحظة الانهيار هذه جسّدها اختناق صوت «الست»، لحظة تفاقمت تبعاتها حتى الآن، في عقد مقارنة بسيطة بين وجوه المصريين وضحكاتهم وسماتهم التي تبدّلت للأسف إلى غير رجعة. عصر مضى بأحلامه وتفاصيله وأوهامه، وحاضر خانق لا يُحتمل.
«الست» أنهت حياة صاخبة في وقفتها الأخيرة على المسرح، كحياة المصريين، وماتت بالفعل في هذه اللحظة، بخلاف موت جسدها في النهاية. هذه هي الحالة التي خلقها الفيلم، وشعر بها المُشاهِد من دون مواربة، أو تزييف.
إيقاع السرد
اعتمدت المخرجة على عدة أصوات سردية في الفيلم … بداية من صوت الرواي، الذي أداه الفنان عمر الشريف، وهو نص يحمل سمات اللغة الشعرية، ساعد إلقاء عمر الشريف له بجعله يقترب من حالة الشعر، عن حياة أم كلثوم ورحلتها من إحدى قرى شمال مصر، ووصولها القاهرة، وارتباطها بالطبقة الأرستقراطية وقتها، وفئة المثقفين الذين ساعدوها، لما وجدوا في صوتها أنه أحد أهم مظاهر التعبير عن مصر، في وقت الاحتلال الأجنبي، فكان الاعتزاز بكل ما هو مصري وله قيمة.
إضافة إلى ما فعلته من خلال عدة ملحنين، بداية بالشيخ أبو العلا محمد، ووصولاً إلى تعاونها مع محمد عبد الوهاب في بداية ستينات القرن الفائت. بخلاف التعليق جاءت الأغنيات ومراحلها التاريخية والاجتماعية، ومظاهر التجديد في الموسيقى العربية من خلال صوتها، الذي أصبح عنواناً للأغنية العربية في العالم.
ومن ناحية أخرى جاءت الصور الفوتوغرافية لأم كلثوم وحفلاتها، خاصة التي أقامتها بعد 1967 وهو ما عُرف بحفلات دعم المجهود الحربي، وزيارتها للدول العربية والعالم، على رأسها تونس واستقبال بورقيبة وزوجته لها، وباريس والاحتفاء اللافت الذي لاقته من الجاليات العربية هناك، والعديد من الفرنسيين أنفسهم. وأخيراً عدة شهادات من الذين اقتربوا منها أو تناولوا موسيقاها بالعزف والتحليل منهم، سليم سحاب والمؤرخ الموسيقي عبد الحميد توفيق زكي وشخصيات أخرى كسعد الدين وهبة، الذي يذكر موقفها عند محاصرة الجيش للقصر الملكي في الإسكندرية، قبل خروج فاروق، وموقفها وقت موت عبد الناصر، وقد انزوت في حجرة صغيرة في بيتها لعدة أسابيع، وهنا يتم عقد مقارنة ما.. بين رجل سياسي اختلفت حول أفعاله الآراء ــ حتى الآن ــ ومطربة جسدت بوجودها وصوتها حالة مجتمع بالكامل، صار الاختلاف على فنها وما قدمته للأغنية العربية ولمصر خاصة، محل جدل غير ملحوظ. فأي زعامة، وأي منهما كان له التأثير الأكبر في نفوس الناس؟ ليس الآن فقط، ولكن بعد الكثير من السنوات الآتية؟
كما جاءت ضمن ضيوف الفيلم كاتبة السيناريو، ومؤلفة كتاب «أم كلثوم/صوت يُشبه مصر» فيرجينيا دانلسون، لتتحدث عن بحثها وما اكتشفته من ارتباط صوت أم كلثوم وموسيقاها بالمجتمع المصري، حتى أنها تجري حواراً مع أحد عازفي فرقة أم كلثوم، الذي تحدث عن تجربته في أغنية «أنت عمري» وأن جميع العازفين كانوا يحفظون اللحن، من دون نوته موسيقية، يبدأ كل منهم في التعامل بأذنه ثم يضيف من موهبته وروحه، من دون التقيّد التام باللحن، هكذا كان يرى عبد الوهاب، وهكذا غنّت أم كلثوم.
ومن الشخصيات الأخرى التي أضافت تفسيرات اجتماعية على ظاهرة «الست» كل من المفكر محمد عودة، الذي يرى أن صوت أم كلثوم لا يقتصر على منطقة بعينها من مناطق مصر، فهو يجمع ما بين الريف والقاهرة والصعيد، فهو الأكثر والأجدر تعبيراً عن الروح المصرية. كذلك المؤرخ والصحافي صلاح عيسى، والمخرج توفيق صالح، ونجيب محفوظ، الذي أشار إلى تأثير أم كلثوم على مزاج وروح الشخصية المصرية، قاصداً الناس العاديين.
وهنا تتجول الكاميرا في الشوارع والمقاهي ووسائل المواصلات في القاهرة، وتتوقف أمام أحدهم ليتذكر قصة حبه التي ارتبطت بأغنية معينة لأم كلثوم «أنت عمري» كانت تذاع للمرّة الأولى، لم يزل الرجل يتذكّر، ولم تزل الأغنية تتردد على لسانه. وفي لقطات ذكية جداً ــ مصنوعة بالتأكيد ــ يجلس بواب إحدى العمارات وبجواره راديو يُذيع أغنية لأم كلثوم، ويصعد أسانسير البناية ليمر بالعديد من الشقق، فيتعدد شريط الصوت المُصاحب للصورة بتداخل أصوات وأغنيات موسيقية مختلفة، أغلبها غربي، حتى يصل الأسانسير ويتوقف أما إحدى الشقق ليتسرب منها صوت أم كلثوم في أغنية أخرى من أغنياتها.
الجنازة والختام
لم يفلت الفيلم من عقد مقارنة بين جنازتي عبد الناصر وأم كلثوم، تكاد الوجوه والأعداد تتشابه، هنا جنازة عسكرية وهناك جنازة شعبية لم تحدث لأحد من قبل، الجميع يرفع صورها، والشوارع التي أغلقها زحف البشر من كل اتجاه، وجوه تبكي تاريخها الخاص وذكرياتها التي ارتبطت بصوت «الست»، هذا الصوت الذي شك الجميع في أن تأتي لحظة ويتوقف، وجوه مندهشة غير مُصدقة لما حدث، وبالتأكيد لم تكن لتصدق ما سيحدث بعد ذلك في حياتها، من تغيّر تام لطبيعة وإيقاع هذه الحياة، حالة اغتراب تأكدت ــ هكذا يوحي الفيلم ــ بعد صمت أم كلثوم، ربما فارق الصوت وجوده في لحظة اختارها ــ هنا يصبح الخيال والتأويل هو المُفسّر للحدث ــ تاركاً الذكرى وحدها، كحالة من قداسة لن تُمَس، فقط الذكرى.. ربما تنفع.
وحتى لا يصل الأمر للحظة انفجار نتيجة هذا الشحن العاطفي المتواصل، تختتم المخرجة ميشال غولدمان الفيلم بأغنية «غني لي شوي شوي» من فيلم «سلامة» عام 1944 لتبدو أم كلثوم في حالة قصوى من شباب الصوت والجسد، وأغنية مرحة مُبهجة تتغنى بها، باسمة في وجه الجمهور، مؤكدة في النهاية بأن .. «المغنى حياة الروح».
محمد عبد الرحيم