الوجه والوجه الآخر

طالما ذكرت أن الموسيقى من شأنها أن تُهذب النفس والروح معا، وأن تعلّم الموسيقى منذ الصغر يدفع إلى رحلة إنسانية مغايرة داخل الروح، تبعد صاحبها عن كثير مما قد يوصف بأنه انحدار الأخلاق أو الذهاب في نفق الظلام.

الوجه والوجه الآخر

[wpcc-script type=”e82816d354f4207a1db141bb-text/javascript”]

نصير شمه

طالما ذكرت أن الموسيقى من شأنها أن تُهذب النفس والروح معا، وأن تعلّم الموسيقى منذ الصغر يدفع إلى رحلة إنسانية مغايرة داخل الروح، تبعد صاحبها عن كثير مما قد يوصف بأنه انحدار الأخلاق أو الذهاب في نفق الظلام.
لكن يبقى أن استخدام الموسيقى ليس دائما استخداما شفيفا أو إنسانيا، فقد عرف التاريخ «الإنساني» حالات مغايرة تماما لما أرادته الموسيقى من صفاء روحي وارتقاء بشري، وفي التاريخ عرفنا أن كثيرا من السجون مارست التعذيب والترهيب ضد المسجونين على الأنغام الموسيقية، وغالبا ما كان يتم هذا التعذيب الممنهج على إيقاع الموسيقى الكلاسيكية. وقد ذكر المفكر الراحل إدوارد سعيد أن النازيين في المعسكرات النازية كانوا يقودون المعتقلين إلى الموت على وقع أنغام موسيقى فاغنر، وأن الإسرائيليين في المقابل
استخدموا موسيقى الميتال «Rock metal music» في إزعاج وترهيب المحاصرين في كنيسة المهد، في بيت لحم أثناء محاصرتهم عام 2002، ويضيف أن تعذيب المعتقلين الفلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية كان يتم على أنغام بيتهوفن كنوع من «التعذيب المعتدل» للمعتقلين. وقد ذكر حادثة تتعلق بصديق ابنه الذي كان يزورهم كثيرا في البيت وكان سبق أن اعتقل في السجون الإسرائيلية، والذي كان يستثار نفسيا بطريقة مؤذية عندما يستمع الى موسيقى بيتهوفن في منزل إدوارد سعيد، وعندما سئل لماذا تؤذيه هذه الموسيقى؟ أجاب بأن الزنزانات المنفردة التي كان يُعاقب فيها الفلسطينيون كانت مجهزة بمكبرات صوت تبث موسيقى بيتهوفن.
واستخدمت الموسيقى أيضا في جلسات الشذوذ الإنساني، فكان عبدة الشيطان يستخدمونها أثناء طقوسهم لتأجيج المشاركين في حلقات الجنون ودفعهم إلى ذروة الشذوذ. كما استخدمت القبائل البدائية الموسيقى، خصوصا الطبول والنفير لإعلان حالات الحرب، أو كطقوس بدائية للقتل أو الصيد أو ما شابهها. كانت دائما هناك المتناقضات التي تسير بالتوازي، فمن موسيقى ترتقي بالروح وتؤجج خيرها وجمالها إلى موسيقى تؤجج الشر والبشاعة. والغريب في الأمر أحيانا أن مقطوعة موسيقية واحدة كانت تستخدم لمسارين متناقضين بشكل كبير. وقد عرفنا في التاريخ أيضا، أن ديكتاتوريين معروفين ببطشهم وقسوتهم كانوا يحبون الموسيقى بل يعشقونها، وتربى بعضهم على سماعها، والأغرب عزفها أيضا.
وعرف العالم حالات كثيرة لضباط كانوا يمارسون التعذيب أثناء النهار على المعتقلين، وما أن يأتي الليل حتى يبدأوا طقوسا مغايرة تماما، فيعزفون موسيقى راقية لا تتلاقى أبدا مع صرخات المعذبين تحت سياطهم.
المؤكد أن الموسيقى تستطيع أن تحرض وتستفز الداخل، بل تذهب في إيقاظ الغرائز حتى النائمة منها طالما هي موجودة في الأصل. في حالات الحزن تحرض الموسيقى بعض الأشخاص على البكاء المكبوت في الداخل، وقد تنقل شخصا حزينا إلى حالة مغايرة من فرح حتى إن كان مشوبا بالشجن. إذن تستطيع الموسيقى أن تشكل «تطرفا» في المشاعر، بمعنى أن تكون محفّزا على مضاعفة شعورنا تجاه الأشياء أو الأحاسيس المحيطة بِنَا، فالموسيقى نفسها التي تُطرف بِنَا مشاعر الحزن بوسعها أيضا أن تُطرّف بِنَا مشاعر الفرح مرتكزة على بذرة أو أساس يريده الداخل الإنساني.
في الحرب العالمية الثانية، كان أزيز الطيران يشكل رعبا حقيقيا في السماء، وكان يكفي أن يسمعه الناس حتى يصابوا بهلع مخيف ويتراكضوا في شتى الاتجاهات، وكان كفيلا أيضا بأن يجعل الجنود يرتعدون وهم ينتظرون اقتراب الغارة من أماكن تواجدهم، الشيء نفسه ظل مرتبطا بالحروب التي تلت، فقد مارس الطيران الإسرائيلي في اجتياحه للبنان هذا الترويع ضد المدنيين والمقاتلين على حد سواء. وذكر معتقلون في غوانتامو أن الأمريكيين كانوا يعذبونهم بالاستماع لموسيقى تمجد أمريكا، بمعنى ارتباط الأغنية وجدانيا بأمريكا، في حين أن من يخضع للتعذيب يرى في أمريكا محتلا قاتلا وعدوا.
وقد يسري الأمر نفسه على معزوفات السلام الوطنية التي تحرض وتستفز مشاعر المجد والحب لدى من يسمعها تجاه وطنه، فيما تستفز مشاعر من الممكن أن توصف أحيانا بالحقد أو الكراهية لدى شخص آخر يعتبر أن هذه الموسيقى تخص عدوه، أي أن الموسيقى أيضا تستفز مكانا ما في الذاكرة، وتنبني على ذاكرة الإنسان المرتبطة بالموسيقى، وقد يحدث هذا أيضا مع آلة موسيقية معينة بإمكانها أن تستفز داخل إنسان لأنها ترتبط معه بحدث معين.
الموسيقى من المحفزات العميقة جدا، التي يستخدمها أيضا الطب النفسي الحديث بغزارة لأنها قادرة على تحريك الرمال الراكدة واستخراج المدفون تحتها مهما كان هذا المدفون عميقا، ولهذا نجد كثيرا من الأطباء النفسانيين يلجأون إلى الفنون إجمالا من رسم وشعر ولكن تبقى الموسيقى المحرض الأكبر للوصول إلى حالة يستطيع فيها المريض البوح والتحدث عن مكنوناته، التي أحيانا قد لا يدركها هو نفسه.
لكن هل تختلف ألآلات الموسيقية في قدرتها على استفزاز المشاعر؟ وبمعنى آخر
هل تختلف مثلا الاَلات الوترية عن آلات الإيقاع أو النفخ في توليد حالات معينة؟ هل يختص الناي بالألم والكمان بالحزن والعود بالفرح؟ هل هناك تصنيفات تجعلنا نربي ذائقتنا طبقا لحالات معينة؟ سأتابع الأسبوع المقبل رحلتي ضمن هذا الموضوع نفسه بحثا عن إجابات لهذه الأسئلة.

موسيقي عراقي

الوجه والوجه الآخر

نصير شمه

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *