«انهيار العولمة وإعادة اختراع العالم» لجون سول: أن تضرب الطفل حتى يبكي ثم تضربه ثانية ليتوقف عن البكاء
[wpcc-script type=”4d11c994064de159b5555496-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: أسس الكثيرون واعتقدوا في العولمة وتبعاتها الثقافية والاجتماعية بأنها الديانة الجديدة التي ستجب ما قبلها، فمنذ أوائل السبعينيات من القرن الفائت هيمنت العقيدة الاقتصادية باعتبارها العقيدة المطلقة، التي سيتبعها ويتوقف عندها العالم طويلاً، فهي الحتمية والقدرية، كما نادى بها المحافظون الجدد ودعاة الليبرالية الجديدة، وكان من نتائج ذلك انحسار دور الدولة، فأصبحت الشركات متعددة الجنسيات هي المُتحكمة في مصائر النظم الحاكمة والدول.
لكن ومع منتصف التسعينيات بدأت أعراض الفشل تطول هذه الوعود، متمثلة في القضايا الاجتماعية والإنسانية، كاتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وزيادة الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات، وتنامي معدلات البطالة بنسبة غير مسبوقة، فكان الانهيار ــ الحتمي ــ فتنامت ظاهرة القومية والوطنية كرد فعل لأخطاء النظام العالمي كما تصوره كهنته. هذه الظاهرة من بدايتها إلى لحظات انهيارها وآثارها يناقشها تفصيلاً الكاتب والسياسي والروائي الكندي جون رالستون سول، في مؤلفه «انهيار العولمة وإعادة اختراع العالم»، الذي صدر في طبعة خاصة بمكتبة الأسرة في القاهرة، ضمن سلسلة العلوم الاجتماعية ــ صدر من قبل عن الدار المصرية اللبنانية ــ وقام بترجمته محمد الخولي. يقع الكتاب في 495 صفحة من القطع الكبير. وسنحاول استعراض بعض القضايا التي تناولها الكتاب، والتي لم تزل ترمي ظلالها على واقعنا السياسي والاجتماعي الراهن.
ما الذي تعنيه العولمة؟
يُفضل المؤلف أن يُعرّف العولمة من خلال سياق متكامل نشأت خلاله، لا من خلال الأفكار المتداولة أو الناتجة عنها كظاهرة. فما بين النمو في مجال التجارة، أزمة ديون العالم الثالث، العنف الدولي، نشوء النزعة القومية، انغماس الشباب في أنشطة شبه سياسية، هذه الحقائق المتغيرة هي التي ترسم مسار الأحداث، وليس القوى الاقتصادية التي قيل على مدار عقود إنها ستكون مسؤولة عن ذلك المسار، أو ستتحتم مسؤوليتها عنه. فالاقتصاد يتسم بطابع المسرح الدرامي، ويعتمد على أن سائر الناس يختارون عن طيب خارج تصديق ما يُشاهدون. وتبدو العولمة في كيفية صياغة وعودها، المتمثلة في اضمحلال سلطة الدولة القومية، بأنها ستصبح القوة بيد الأسواق، وبالتالي سيكون الاقتصاد فقط هو الجدير بتشكيل الأحداث الإنسانية. والرخاء الناتج عن هذا المفهوم سيُتيح للأفراد أن يحولوا النظم الديكتاتورية إلى ديمقراطيات، وعن طريق شركات عابرة للوطنية والقومية القاصرة سيكون الطريق إلى الحضارة، لأنها ستصبح بمثابة دول افتراضية، مما يسمح لها بوضع حد للتحيزات السياسية المحلية. ففكرة قيادة الأسواق هذه كقوة كامنة للأداء الاقتصادي هو ما تعبّر عنه وتجسده العولمة على أرض الواقع. ولكن حتى الوعود التي تحققت لم ينجم عنها الأثر المطلوب، فلا توجد علاقة متوازنة بين الوعد والنتيجة، فزيادة التركيز على الثروة الاقتصادية يواكبه تناقص حاد في رصد الأموال اللازمة لأغراض الصالح العام، كذلك التفاوت الصارخ بين الثروة الورقية والنمو الهامشي في الثروة الحقيقية، وهو ما يؤكد في النهاية عدم استقرار القدرات الحكومية والاجتماعية، فما الحال بالنسبة للأفراد!
النمو الاقتصادي وحِدّة الفقر
يضرب الكاتب مثالاً في غاية الدقة والمفارقة لما يحيط بالعولمة من هالات زائفة، ذلك من خلال دراسة قام بالتعليق عليها، فقد انخفض معدل الذين يعيشون بأقل من دولار من 35% إلى 1% في دولة بتسوانا. وبينما تُرجع الدراسة الأمر إلى نعمة العولمة، يوضح الكاتب الأمر بأن هذه الدولة هي الأولى على قائمة الدول المُصابة بالإيدز، وبالتالي هناك تناقص متواتر في عدد السكان، مما يجعلهم يتقاسمون الثروة بشكل أفضل، كما أنها تحظى بمنجم ضخم من الماس، إضافة إلى حكومة صالحة إلى حدٍ معقول. فما علاقة كل هذه العوامل، التي تلاقت مُصادفة بفكرة اقتصاديات العولمة؟
مُضحِك الملك
ويُطلق الكاتب هذا اللقب على «مؤتمر دافوس» منذ انعقاده الأول في يناير/كانون الثاني 1971 كمحاولة لاجتذاب تكنوقراط الأعمال التجارية الأوروبية إلى منافسة أقوى مع الولايات المتحدة، الذي دار حول ثلاث رؤى، أولاها أن الدولة تموت وتستحق ذلك، وأن الأعمال لابد أن يقودها المديرون لا الرأسماليون، وأن دوائر الأعمال لابد لها من قيادة المجتمع. هذا المؤتمر الذي تحول بعد ذلك إلى المنتدى الاقتصادي العالمي. فالأمر في أصله يعود إلى طرق سياسات تخص الذين يمتلكونه، ويفسرونه بأنه الترويج لنظام عولمي لا تحكمه ضوابط سوى عالم التجارة والأعمال، فدافوس ما هو إلا تعبير عولمي عن سلوك يفتقر إلى الأخلاق.
ظهور النزعات القومية
يُشير المؤلف إلى أن أوائل التسعينيات كانت البداية لعلامات متزايدة بشأن أقوام كانوا على مشارف الإحساس بالاغتراب، في عالم تسوده نظريات العولمة، فجاء الارتداد إلى النزعة القومية في صيغتها العتيقة. كحالات انفصال سلوفينيا وكرواتيا، وتدخل الجيش اليوغسلافي، والأمر الأهم والأكثر مباشرة هو تفكك الاتحاد السوفييتي. فمع وصول العولمة إلى ذروتها، عاودت أسوأ أنماط القومية السلبية الظهور، وبالتالي بدأت علامات التفكك، أهمها تزايد الانفصام بين نظام العولمة وحياة الناس، إضافة إلى القوميات ذات الصبغة الدينية، سواء في دول كانت تنتمي سياسياً إلى أوروبا الشرقية أو الغربية.
حالتا الهند والصين
ما بين دولة ذات نظام اشتراكي بيروقراطي وأخرى شيوعية، وقد اعتنق كل منها نظريات الاقتصاد والتجارة على أساس ليبرالي، وتحقيق المزيد من التقدم الاقتصادي. يتساءل الكاتب عن مدى ارتباط هذا النجاح بالعولمة. ليجيب بأنهما وضعا الضوابط على رؤوس الأموال وحركة توظيف الاستثمارات، إضافة إلى عمليات التحديث الاقتصادي، من خلال عدم اتباع المبادئ الاقتصادية للعولمة.
فجميع أشكال إصلاحات السوق جاء من خلال سياق يتوخى بالأساس مصالح الدولة القومية، وما عمليات التحديث إلا وتتم من خلال منظومات وطنية وقومية. فالصين على سبيل المثال مازالت تسيطر على نصف الأصول الصناعية في الدولة، وتستثمر في هياكلها الأساسية، تتبعها الهند في ذلك، وإن كان بنسبة أقل، ولكن بما يتوافق مع طبيعة تكوينها. وهو ما يطلق عليه في النهاية أحد أشكال القومية الإيجابية.
اليقين الساذج
وفي النهاية يرى جون رالستون سول، أن الطابع المرحلي للعولمة يتأتى جزئياً من السذاجة الفكرية التي تحيط بها، المتمثل في الإيمان بنهج أقرب إلى التجريد إزاء تناول حياة البشر، استناداً إلى توقعات قيادة اقتصادية تقوم على أساس نظرية وحيدة من نظريات الاقتصاد.
وأن نتوقع العالم يقف يرقب مُنتظراً النظرية وهي تحقق نجاحاتها، والأكثر سذاجة أن ينتظر كل طرف متوقعاً النتائج وحتمية النجاح بفضل هذا المنهج، وبالتالي إعادة تشكيل جميع جوانب حياتنا. ولعل ما فعلته الولايات المتحدة من تخفيض قيمة الدولار في مسعى لحل مشكلاتها الوطنية، جاء ليوضح للبلدان المُستضعَفة أن الدول القومية ومصلحتها بالأساس هي ما يمثل الأمر الأهم من أي نظرية اقتصادية أخرى.
محمد عبد الرحيم