بوصلة طائشة وعالم نائم: هل تشبه سوريا أفغانستان؟
[wpcc-script type=”5582c74996803bbf9aa18bcf-text/javascript”]
ثمةَ لا إخلاص للحقيقة الثورية الجديدة، فالنقد ينطلق من زاوية جبرِ كسر خاطر طرف على حساب طرفٍ آخر، أي أن القارئ يعرف سلفا إذا تم نقد جهة فهو ضمنا تبرئة لجهة أخرى.
والحرب ليست بين معارض وموال، إنما بين معارض ومعارض، وصارت السورية كانتماء هي الحلقة الأضعف، والتقسيمات أصابها الخلل فلا تفريق بين العرقي والطائفي والإثني، وما عدنا نعرف إذاما تم تقسيم سوريا إلى كانتونات على أي أساس سيحدث هذا التقسيم، ليس العدل هو ما كان يوحد الناس ليفكروا بشكل متقارب، وإنما السوط كان يبتر المسافة بين الجميع، حتى أصبحنا تحت هيمنة الثقافة الأحادية المستلبة، فإما أنت مع وإما أنت عدو الوطن وتؤسس جمعية سرية وتعمل على إضعاف الشعور القومي، هذا الشعور الذي بدا واضحا في أدبيات القيادة في بدء الأزمة بقولها: «أمن اسرائيل من أمن سوريا» هذه (سوريا الأسد حارسة القومية العربية)، يفتح الباب على مصراعيه لاحتمالات كثيرة هو تَسّيد الأدنى فكريا على حساب الأعلى، أي ربما سنرى ثانية الحزبي وشيخ القبيلة المجتّر من النظام نفسه، وسنرى البائع المتحول بفعلِ تجارة الحرب إلى رأسمالي صغير، ويتحول إلى أمير حرب بعد أن يجمع شلة من الزعران حوله، يسند بها جرة أوهامه الموشكة على السقوط، الحرب دائما بعد الحرب، هذه مقاربة لمقولة مهندس الحرب الذرية الأمريكية «إن الحرب مروعة وإن السلم أيضا مروع فيما لو قيس بالحرب».
يقول قائل إن المقارنة بين النظام بالدعم الحقيقي له وبين المعارضة بالدعم المضمر والخجول، مقارنة بائسة أدبيا وافتراضيا، فالخلل في التوازن، سواء على صعيد التسليح أو إعلاميا، إذا قلنا إن الثورة كانت إعلامية بنسبة كبيرة، ما يعني أن أرض الواقع ستشهد هذه المفارقة، وسيتم ترتيب الأوراق باستمرار واللعب بها، وهو ما أجاده النظام السوري، إذ أن السوريين والعالم الناظر إلى ثورته ترقبّ سقوط النظام بأقل من المتوقع. غير أن الاستشراس العسكري والاشتغال على الأمني طيلة أربعين عاما، جعلاه يوصل للعالم أجمع نموذجه الحي، ويعطي الأمل للشبيه بأن معطيات كبح جماح الثورة ممكنة، وهو ما أدى بدول ذات دور أساسي التغاضي عنه وإطالة الأزمة بتوجيه النصائح والتوصيفات، كأن يقول أحدهم النظام سيسقط مهما طال الزمن، فيما قائل قبل يومين: أيام الأسد معدودة، وكأن تصرخ دولة تدعي خوفها على الشعب السوري وأطفاله بأن النظام السوري بما يقوم به غير أخلاقي، مع العلم أنها صرحت بأن على الأسد التنحي وحكومته فاقدة للشرعية، يبقى الدوران المهمان، الإيراني والروسي، وهما الأكثر وضوحا بوقوفهما ودعمهما بلا مراوغة، وهو موقف نابع من أن أمريكا لا تقوم بالحل بل بإدارة الأزمة. وهاتان الدولتان تستفيدان من هذه المفارقة لتحصيل ما يمكن تحصيله من المجتمع الدولي، الذي نفسه يذهب ضحية عملية البيع والشراء الأمريكيتين.
من الواضح أن أمريكا لم تقل كلمتها الفصل، ومسلسلها الطويل متحججة بجبهة النصرة وبعدم توحد المعارضة، مع أنها نسفت بكلمة واحدة من السيدة هيلاري كلينتون كيانا قويا إلى حد ما وجامعا لكثير من قوى المعارضة، لتدعو إلى كيان آخر، ثم تأتي في ذيل المعترفين به، تلعب فرنسا دورا ملتبسا مع السياسة المعارضة وتعطي وعودا بالتسليح، ثم سرعان ما تقول إنها تتخوف من ذهاب السلاح إلى أيد متطرفة، وهو ما تؤيده أمريكا في حال تقدم المعارضة المسلحة على أرض الواقع، وهذا فيه ملامسة للجانب الإعلامي الذي تم ذكره.
هذا الرجحان يقرأه الشارع العادي على أنه إنهاك لجميع القوى في سوريا لصالح إسرائيل، وإشعال الساحة بحروب فيما بعد الأسد تدوم لسنين، أو ستأتي قوى ضعيفة لن تشكل خطرا على أمن (الجارة المدللة) للعرب والحليفة الاستراتيجية (لأم الدنيا)، ولن تستطيع اللعب بأوراق في منطقة الشرق الأوسط، كالتي يلعب بها نظام بشار الأسد أو أوهمَ الآخرين ومن خلال شعارات فضفاضة أن لديه القدرة على إقلاق راحتهم. الآن وبعد أن تخلّت أمريكا عن خطوطها الحمراء وتذرعت بعدم وجود معارضة معتدلة مقارنة مع تنظيم الدولة الإسلامية، راحت تسوق فكرتها الفجة والممجوجة بضرب قوى عاملة أخرى وإنهاكها، وبالتالي يصح قولها أن لا معتدلين، خاصة إذا استيأس المعتدل ورأى الأقرب له من النظام (تنظيم الدولة). خلاصة هذه الفكرة: أصدقاء النظام السوري صدقوه، بينما أصدقاء الشعب السوري خذلوه، لا بل الأصح القول قتلوه.
الواضح إن انقسامات بدأت تظهر في المجتمع السوري، وقضايا طائفية وأخرى قومية، سنة وعلويين.. عربا وكردا وتركمانا وسريانا كلدو آشوريين، بعض هذه التقسيمات ومنها العلويون ينظر إليهم على أنهم منتجو السلطة وهم سدنتها الآن، بينما السنة يتلمسون ذواتهم على أنهم مضطهدون بحكم أقلية لها ما يقارب الخمسين عاما في الحكم.
قوميا تأتي القضية الكردية بأن وقع عليها غبن مزدوج من كونها أقلية كبيرة لم تحصل على حقوقها ومن كونها أقلية سوريا عانت ماعانته المكونات الأخرى، غير أنها ومع الثورة عمل النظام على تحييدها، أو حاول ذلك بأن لم يتعرض للشارع الكردي المتظاهر، ما خلق ريبة وشعورا بأن تواطؤا على مستوى النظام والأحزاب الكردية تمَّ، ما جعل الكردي يرتفع بسقف مطالبه وصار يتحدث عن منطقة الجزيرة على أنها غرب كردستان، وأن المجتمع هنا (مجتمع كردستاني) ومن فيه من عرب وسريان وآشوريين ويزيديين وتركمان وغيرهم هم الأقلية، ومهما يكن من شأن هذه الطروحات لم تبق شعارات الشارع مهذبة وخاضعة للسياسي، بل صار السياسي يتبناها في محاولة لاستعادة بعض وهجه، بعد إفلاسه مع فورة الشباب المتحمس لحقوقه بلا محاججة الآخر أو محاولة إقناعه. من هنا ننظر إلى الداخل نقديا بوصفه ليس محصنّا كفاية، خاصة إذا عرفنا أن المعارضة لا تمتلك الحل وهي تتبع مصادر تمويلها أو مساعديها على العيش ولا أقصد هنا بالتمويل نعتها بالتبعية، هذا سياسيا، بالنسبة للجيش الحر موزع ويكفي 50 شخصا يجتمعون في قرية ثم يسمون أنفسهم كتيبة، ويعلنون عن نشاطهم، أي أن المرجعية واهية وكل التسميات (مجلس ثوري، مجلس عسكري، القيادة المشتركة، وغيرها) التواصل في ما بينها قليل ولا تتبع لاستراتيجية أو مركزية ترتّب عملها، بل كثير من التشكيلات تم ابتلاعها مؤخرا من قوى إسلامية منظمة وتتلقى دعما أفضل، ولهذا شهدت الحالة كثيرا من الخروقات التي أدت إلى إضعاف الحاضنة الاجتماعية للجيش الحر، الذي انبثق من حاجة ملحة وكملمح من ملامح الدفاع عن النفس وعن السلمية التي أصرّ عليها السوريون لأشهر من ثورتهم، رغم محاولات النظام المستميتة جرهم إلى العسكرة منذ اختراع مفردة «مندسين».
إن إشاحة العالم بوجهه عن المجازر السورية يعني أنه يتنصل من أخلاقياته ويفـــــتح بابا واسعا لردة فعل من السوريين تجاه العالم كله، أي ألا غرابة بتــــوتر أكبر في موضوعة الإرهاب ومكافحته، وفقدان المواطن ثقته بــــدولته وبالتالي إصابة روح المواطنة فيه ما يجعل تحرك مجموعات وقوى نائمة بالعمل استفادة من هذا التحول الأخلاقي.
لا شك أن السوري قدّم نموذجه المدني بقدرته على التعامل مع العالم المتمدن، رغم فقره وتفكيره الدائم بلقمة عيشه. وتسميته لكتائبه المقاتلة بالعودة إلى الجذر الديني ليس إلا حالة فقدان الثقة مع من هم على الأرض وخذلوه على الدوام. وسبق ذلك تسمية «جمع المظاهرات» ظناً أنَّ دور العبادة بمأمن من جبروت المخابرات، وهي محاولة لجمع أكبر عدد من الأحياء الذين كانوا على ذمة الموت، وتمرينهم على خلع الخوف والجهر بالصوت على شكل هتاف أو أغنية أو حتى شتيمة، إذ بالتأكيد كان من غير الممكن الخروج من مركز ثقافي أو مؤسسة أهلية اجتماعية في بلد يحارب كل ملمح لمجتمع مدني.
سيدرك العالم أن بنية الإنسان السوري دينية معتدلة، متصالحة مع ذاتها، وهي ليست (أي البنية) أرضا لخلافة تستعيد الراشدين قبل (1400) سنة كما أرادَ من أرادَ لتشييدها في أفغانستان، هذا إذا آمنا أن من يسعى في هذا الشأن هو المسلم الذي يفكر فعليا بإشاعة الفكر الإسلامي وسيادته، وإذا آمنا أن عملا حثيثا وخبيثا تقوم به جهات يأتي في أسفل سلم اهتماماتها الإسلام كفكر وطريقة حياة. هي نتيجة يصلها العاقل وإن متأخرا بأن فروقات جذرية بين البلدين، أقصد سوريا وأفغانستان.
٭ كاتب سوري
محمد المطرود