«بولاق أبو العلا» رواية فتحي سليمان … التأريخ الاجتماعي في وقائع حي قاهريّ شعبي
[wpcc-script type=”f33b6017cb37bd37c6569a31-text/javascript”]
في لغة عامية رصينة تأتي رواية «بولاق أبو العلا» للكاتب فتحي سليمان لترسم صورة لعالم اختفى، ولكن ذاكرة الكاتب الحيّة، وشخصياته الأكثر قدرة على الحياة، مهما طالها من حسرات، اتفقت على تسميتها بالقضاء والقدر، تجعل من الحكايات وأصحابها أبطالاً حقيقيين في مواجهة صراعاتهم الدائمة. عالم كامل يتشابه وأماكن كثيرة في قاهرة ذلك الزمن، حيث انصبّت الرواية بالأساس على حقبتي الستينيات والسبعينيات، وإن مسّت بشخوصها وبعض أحداثها العهد الملكي وثورة 1919.
البناء الروائي والحكاية
لا توجد بطولة لأحد في الرواية، وما الرواي المتحدث بضمير «الأنا» إلا وسيلة للحكي. وبالتالي جاء البناء الروائي للحكاية أو الحكايات في شكل أقرب للمكان وشخوصه. من أزقة وأبواب بيوت وشبابيك تطل منها الحكاية ثم تختفي، تماماً كأصحابها. فلا توجد عناوين أو تقسيمات بفصل أو ما شابه من تقسيمات الحكايات، الأمر ينحصر في مشاهدات صبي حتى وصوله إلى سن التجنيد الإجباري في تشرين الاول/أكتوبر 1981. وككل الأعمال التي تستند إلى فترة زمنية سابقة، نجد الفارق ما بين زمن الأحداث وزمن كتابتها، أو زمن الوعي بها ووضعها داخل إطار فني، أو تحميلها بدلالات ومقولات تفوق عمقها البسيط فتفسدها، وهو ما تفاداه الكاتب في حِرفية، وترك للقارئ استنتاج الدلالة من خلال موقف وآخر يتبعه، هناك يتجلى الرابط الخفي بين الحكايات الكثيرة والمتشعبة، رغم أنها مُنتقاة بالطبع وتمت إعادة صياغتها وفق الخيال الروائي. ولعل في ترتيب الحدثين التاليين ما يوضح الأمر … «في برامج الأطفال الصباحية كانوا يأتون بأولاد وبنات يرتدون ملابس دائماً جديدة، وببدو عليهم أنهم أخذوا قسطاً كبيراً من النوم، تسألهم المذيعة وتجيب بالنيابة عنهم، هم يبتسمون ابتسامة تؤكد استعمالهم لفرشة ومعجون الأسنان. وكان عم منير يقول: نستعين بهم نظراً لانشغالكم في المدرسة، نحن يهمنا مستقبلكم يا ولاد، اتجدعنوا وخلوا بالكم من المذاكرة». وفي الفقرة التالية يكون جلوس هؤلاء الأولاد أمام شاشة عرض في الحي … «في مقدمة المشهد نجلس نحن الصغار على حصير المسجد القديم … حول ماكينة العرض يجلس رجال الاتحاد الاشتراكي موزعين ابتساماتهم المجانية على رجال الحي … لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصرياً، ويضج الشارع بالتصفيق، ويهتف عم علي خنّاق القطط: سعد سعد يحيا سعد».
جغرافيا الشخوص
المنطقة التي أراد الكاتب أن يحكي عنها تبدو من خلال جغرافيتها عالما شعبيا يطل على عالم الارستقراطية، المتمثل في حي الزمالك، الذي يصفه الروائي بالبرودة في البنايات وبالتالي العلاقات بين الناس، وهو نقيض الحي الشعبي الذي يسطر الجل تاريخه من خلال المخلوقات التي تسكنه وتحياه. هذا الاختيار في ذاته له دلالة اجتماعية وسياسية أكثر من كون الجغرافيا هي التي ترسم الحدود. هذه الحدود التي جاء عبد الناصر وحاول أو أوهم بزوالها. يحتفي الروائي بعبد الناصر وقراراته، وينتقده في الوقت نفسه لنتائج هذه القرارات التي غيّرت من بنية المجتمع، وضربت وجه مصر، فأصبحت صيغة التسامح في ذمة صخب التهليل للزعيم القائد. ومن ذلك نجد الشخصيات دوماً في حالة من التوتر، ما بين عالم تراه وآخر تحياه، خالقة صيغة متوازنة للحياة، من خلال طقوس الميلاد والزواج والموت، والمنازل المتلاصقة، والعلاقات والعداءات التي تتبدد في لحظة، عندما يُصيب أحدهم أي سوء. وبالطبع هنالك العديد من المفارقات التي تنتج عن سلوك هذه الشخصيات … «مرّة في نص الليل عِطلِت عربية المقدس (فلتس) .. شمّر عم (علي) أكمام الجلابية السكروته، وكان راجع من بوظة الدويني، وهوبا، زق العربية وهو بينادي: يا مارجرجس، يا بونا مرقص. شويتين والعربية دارت، والمقدس فلتس بيسأل عم علي: إنتَ يا عم مش مسلم؟ بتنادي ليه ع الناس بتوعنا؟! فرد عليه عمنا علي: عايزني في انصاص الليالي أناديلك ع الحسين والسيدة نفيسة، ولاّ سيدي العدوي، واصحيهم من أحلى نومة وانا شارب بوظة!». لا تخلو الحياة من المعارك، خاصة بين مشاهدي كرة القدم وأنصار كل من الفريقين الرسميين، بحيث تقوم كل مجموعة بإحضار حمار يرتدي فانلة الفريق المنافس، حاملة رقم أشهر لاعبيه.
من يونيو 1967 حتى أكتوبر 1981
ما بين التأميم ورحيل الأجانب والقوانين الاشتراكية تحلم الشخصيات بعالم آخر، ولكن نتائج الحلم كانت مُفجعة. ويبدو أن الكاتب ينتقد الأمر في رهافة، دون أن يتخذ موقفاً حاسماً … «على الرغم من أن رحيل أصحاب الشركة الأجانب أثر على دخل والدي، واضطر يشتغل بعد الظهر ليسد العجز في ميزانية البيت، إلا أنه لم يذكر (جمال) إلا بكل الخير والمحبة». وفي مقطع آخر تبدو النظرة نفسها هي المُسيطرة عند تحليل الحدث، فيقول … «اليسار يحلم بتغيير العالم في خمس دقائق، الوقت الكافي لاحتساء كوب شاي ساخن. تنظير شفهي لأحلام وردية .. وكان ناصر يعمل على نهج اشتراكية تلائم طبيعة الشعب، وكلاهما كان يقول الكلام نفسه، ولكن كلاهما كانا يتكلمان في الوقت نفسه.. بدون أن يستمعا إلى بعضهما البعض، واستغل أحفاد المماليك وصبيان القصر والذين أضيروا من ثورة يوليو الموقف، وأشاعوا بينهما الفرقة والاختلاف … ومن الراديو جاء صوت أحمد سعيد وهو يقول: هيا يا عرب، أجهزوا عليهم، الشيوعيون الملاحدة، طهروا التراب والتراث، اقتلوهم حيث وجدتموهم … فيه حاجة غلط، فيه حاجة غلط». هل حتى الآن نظل ندور في فلك الخطأ غير المفهوم؟ وأن أحفاد المماليك ــ حسب تعبير الكاتب ــ هم السبب الوحيد في ما حدث!
وسنكتفي بمشهدين تعليقاً على هزيمة يونيو، ولحظة مقتل السادات، الأول يتعلق بشخصية من شخصيات الرواية، والأخير ينتمي لوعي الكاتب، ورغم النقيض بينهما، إلا أنهما يوضحان حالة الجميع في ذلك الوقت. «يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي لربك راضية مرضية، وادخلي في عبادي وادخلي جنتي. صدق الله العظيم. وهنا أجهش عم (ضاحي) بالبكاء وعلا صوته وهو يصرخ: عبحكيم صيّع لي ولدي، وجمال كان عارف». بينما تأتي لحظة مقتل السادات وكأن السكون والصمت هو الأكثر دلالة على حالة الناس وقتها … «على الكورنيش فيه صدمة بتتمشى في الشارع، وعند مقر مجلة أكتوبر فيه حد أصابه شلل، زي الريس عبد الواحد في فيلم رُد قلبي، وسط البلد بدت كمن تجرّع لتر ويسكي بمفرده، مُنتظراً عشيقته، وعندما جاءت متأخرة لم يستطع القيام معها». وتأتي نهاية الرواية في مفارقة مضحكة، ليبدو طلب الرحمة لكل من القتيل والرواي أو أحد شخوصه … «سكووووت يا جماعة، خلونا نسمع التلفزيون، لا إله إلا الله، الله يرحمك يا أنور، مالحقتش أعمل فلوس في أيامك». وهي فكرة موهومة أخرى صدّرها الرئيس المؤمن، كما صدّر من قبل الزعيم الخالد فكرة الحرية والمساواة والعدل.
فتحي سليمان: «بولاق أبو العلا»
دار بيت الياسمين للنشر والتوزيع، القاهرة 2015
90 صفحة
محمد عبد الرحيم