تجارب تشكيلية مصرية مختلفة… ذكريات تبحث عن لحظة وجودها

القاهرة ـ «القدس العربي»: لم تكن اللقطة التشكيلية سوى تخليد للحظة ما، محاولة لتثبيت الزمن، أو الوقوف في وجهه، مجرّد محاولة يسجل من خلالها الإنسان ومضة خلوده الوهمي، حالة من التأسي تلازم مَن يُطالع لمحة من زمن مضى، وجوها وحيوات كانت ولم تعد، إضافة إلى أماكن هجرها ساكنوها، لتظل كشواهد القبور. محاولة القبض على اللحظة الهاربة هذه تمت معالجتها من خلال ثلاثة معارض تشكيلية مختلفة ومتباينة التجارب.

تجارب تشكيلية مصرية مختلفة… ذكريات تبحث عن لحظة وجودها

[wpcc-script type=”ed266285a9d8cccb0e6a6cce-text/javascript”]

القاهرة ـ «القدس العربي»: لم تكن اللقطة التشكيلية سوى تخليد للحظة ما، محاولة لتثبيت الزمن، أو الوقوف في وجهه، مجرّد محاولة يسجل من خلالها الإنسان ومضة خلوده الوهمي، حالة من التأسي تلازم مَن يُطالع لمحة من زمن مضى، وجوها وحيوات كانت ولم تعد، إضافة إلى أماكن هجرها ساكنوها، لتظل كشواهد القبور. محاولة القبض على اللحظة الهاربة هذه تمت معالجتها من خلال ثلاثة معارض تشكيلية مختلفة ومتباينة التجارب.
ما بين التصوير الضوئي كما في حالة معرض الفنان أحمد بيرو عن «قصر البارون» الذي أقيم بمكتبة البلد، ثم معرض الفنان عمرو الكفراوي المعنون بـ»مثل السراب» الذي أقيم بجاليري مشربية ويحاول استحضار وجوه لشخصيات من خمسينات وستينات القرن الفائت، وأخيراً المسحة الغنائية في معرض الفنان الراحل يحيى زكريا الذي أقيم بأتيليه القاهرة/قاعة تحية حليم، والذي يتغنى بأحداث ثورة 25 يناير/كانون الثاني، التي لم تقم لتكون، ولتدخل ولو مؤقتاً في عِداد الذكريات المرجو استحضارها.
حالة الذكريات هي العامل المشترك بين هذه التجارب، لا يهم كونها ذكريات بعيدة أو قريبة، أو حتى مُصطنعة تحاول إثارة الأسئلة، كما في «مثل السراب» للكفراوي، الأهم أنها مجرّد ذكرى تبحث عن وجودها وسط هذا الصخب الخانق والمُضَلِل الذي نتنفسه.

شمس البارون التي غابت

يحاول الفنان أحمد بيرو أن يوثق لقصر البلجيكي البارون إدوارد إمبان (20 سبتمبر/أيلول 1852 – 22 يوليو/تموز 1929) الشهير بـ»قصر البارون» الواقع في ضاحية مصر الجديدة. ذلك من خلال لقطات للقصر مختلفة الأحجام، من الداخل، حيث الأعمدة وزخارفها، والسطح ومبانيه المُشيّدة، والحديقة حيث بوابات القصر.
اللقطات توثق لحال القصر في دِقة بالغة، لتكشف كم التفاصيل التي يحويها من زخارف وطراز معماري غير معهود ــ اللقطات قبل تجديد القصر ــ ومن خلال أكثر من 50 لقطة فوتوغرافية، يبدو لنا القصر الخرافي وكأنه يستعرض تفاصيله أمام عين الرائي… نقوش وآلهة هندية يتصدرها تصميم فرنسي، أعمدة مرمرية ووحوش ووجوه مُفزعة تعلو الأسقف وترتكنها. حالة مُجسدة لأساطير لطالما تناقلت عن القصر وصاحبه، مجرد رجل مريض استعان بمصمم ومزخرف فرنسيين ليحاولا تحقيق حلم خياله في تشييد القصر على هواه، مساحات شاسعة توحي بروح قلِقة، مهما هجرت مكانها إلا أنها تسكنه، وهو ما يبدو في كل لقطة من اللقطات.
والقصر مكون من طابقين وملحق صغير بالقرب منه تعلوه قبة كبيرة، وعلى الجدران توجد تماثيل مرمرية لراقصات من الهند وأفيال لرفع النوافذ المرصعة بقطع صغيرة من الزجاج البلجيكي وفرسان يحملون السيوف وحيوانات أسطورية تسند الجدران، إضافة إلى البرج الأسطوري الذي يدور على قاعدة متحركة دورة كاملة كل ساعة، بحيث لا تغيب عنه الشمس!

المدينة ووجوهها البعيدة

يبدو المعرض الجدلي للفنان عمرو الكفراوي الذي اختار له اسم «مثل السراب» وهو تشكيل يمزج بين الفوتوغرافيا والرسم والقص واللصق، إضافة إلى خامات مُعاد تصنيعها من ورق رخيص الثمن، لاستعراض وجوه لشخصيات غير مشهورة أو معروفة للعامة، شخصيات عادية لم نطالعها من خلال شاشة، أو حتى قصاصة جريدة، لكنها تعبّر عن روح العصر المُختفي، الذي يحاول الكفراوي استعادته ليشهد على اختفاء بنايات المدينة، التي يسطو عليها اللون الرمادي، لتغرق بدورها في نسيان دائم.
الشخصيات واحجام لقطاتها المختلفة ما بين البورترية، واللقطات التي تجمع أكثر من شخصية، كتصاوير العائلة، أو المهنة.. كالرياضي أو مرتدي الزي العسكري فترة حروب الستينات، إضافة إلى تفاصيل الملابس وموضة النساء وإكسسواراتهن، وهي الفترة التي لم يكن شعر النساء عورة وقتها.
تأتي المقابلة الحادة/الجدلية من خلال النظرات الواثقة للشخصيات، وكأنها هي التي تشاهد المُتلقي، وهو فقط يكتفي بكونه ضمن عالم الرماديات هذا، فقط تنقلب الآية، ويصبح المُتلقي هو محور هذه الوجوه التي تطالعه، ربما في رحمة، لكن بالتأكيد في سخرية من العالم الذي يحياه الآن، هذه المقابلة دائمة ومتوترة في اللقطات، ربما هذه الوجوه شاركت في ما آلت إليه مدينة الأموات الآن، هذا الذي نحياه، هذه الجدران الصمّاء التي نحيا في ظلها، مبان شاهقة مشوّهة، أصبحنا جزءا منها، لكن الوجوه المتورطة رغم رماديتها والأسود المُسيطر على أغلب مساحة اللقطة، يبدو أكثر يقيناً من عالم الألوان المنفصل عن عالم اللقطات واللوحات/الواقع هو الصورة السالبة، لذكريات أكثر قدرة على البقاء، رغم الحالة الجنائزية التي توحي بها، حتى رغم انفلات ابتسامة تعلو وجها، أو لحظة انتصار على الزمن في لمسة يد فوق كتف أب، أو بين رجل وامرأة.

إن نفعَت الذكرى

الانطباع الأول عند مُشاهدة معرض الفنان الراحل يحيى زكريا هو الصوت الغنائي والاحتفالي للوحات، التي تحاول تجسيد لحظات ثورة 25 يناير، ومُحاولة تأصيلها من خلال الشخصيات وتكوينات اللوحة إلى عصور الحضارة الفرعونية، هذا المجد الذي لم نزل نحاول ان نتنفسه، رغم الانقطاع الحاد بيننا الآن وبين المصري القديم وحضارته وسلوكه.
ربما ظهر هذا السلوك فجأة لأصحابه أنفسهم خلال الثورة، وهو ما حاول أن يُجسده الفنان، من خلال وضع الجسد وتفاصيل اللوحة، إضافة إلى المباشرة في بعض الأحيان كتصوير أعداء الخارج الأمريكي ونظرته المتوثبة وقبعته الشهيرة.
لم يخل الأمر من استحضار الروح الشعبي والتراث الشعبي المصري من خلال البيئة، كالبُرقع وما شابه، أو المهنة كعازف الربابة، وكأنه يسرد حكاية مُبجّلة عما حدث، توضع في مصاف المقدس بفضيلة تواترها، هنا تبدو كملحمة طويلة، هنا تصبح ذكرى إذا ما قارنا الحدث بالواقع الحالي، لم يقصد الرجل ان المُطالعة الآن لهذه اللوحات توحي بالتأسي أكثر مما كان ينتويه من الإيحاء بالفرح، هنا يقوم الزمن بتفسير أو بالمساعدة في تفسير العمل، ودرجة التوحد معه، مجرّد أغنية لم تكتمل، لكنها ستظل ذكرى حيّة لمن يريد، أو مُدّعاة للسخرية من النفس أولاً لا من العمل، وربما يكون مُحرّضاً على مواصلة الفعل والمحاولة مرّة أخرى، وربما في النهاية تنفع الذكرى.

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *