«تجديد الخطاب الديني»… لعبة الرقص على الحِبال وفصل آخر من فصول سذاجة السُلطة
[wpcc-script type=”0233fce88707a5cbd03005d0-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: يبدو أن محاولات السلطة في مصر للخروج من نفق التأسلم والعنف الديني/الإرهاب تمضي سريعاً، خاصة وقد أصدر الرئيس الثوري أوامره بضرورة القيام بتجديد الخطاب الديني والقيام بثورة دينية، وذلك في جُملة مباشرة لا تحتمل التأويل، قال إنه «ليس معقولاً أن يكون الفكر الذي نقدسه على مئات السنين يدفع الأمة بكاملها للقلق والخطر والقتل والتدمير في الدنيا كلها»، وقد أوكل هذه المهمة إلى الأزهر ورجاله، بما أن الأزهر هو الممثل الرسمي للوسطية في الإسلام! وذلك بإعادة النظر في تفسير وتأويل النصوص الدينية! الأمر مثير لدرجة الغرابة، فكيف سيتم تفسير نصوص يمثل الجهاد فيها شرطاً وجوبياً لصلاح العقيدة؟ على الرغم من الأحاديث التجميلية لهذه الآيات، والتأويل المغالط لها وقت الحاجة من قِبل الشيوخ وأشباههم، ثم أن الرئيس أوكل الأمر إلى الأزهر، الذي تنضح مناهجه وعقول أغلب شيوخه والعديد من طلابه بنظرة عنصرية متعالية، وكأنهم أصحاب الحق والصواب في الحياة، وهي المناخ المناسب لكل فكر مُتشدد، وبالتالي مُناخ صالح تماماً لتفريغ عنف مستور، يجد ضالته وقت الحاجة والإمكانات. ما موقف الأزهر من الذين حاولوا بالفعل تنقية الخطاب الديني، أو الثورة عليه وصولاً إلى خلق قطيعة تامة معه، بداية من طه حسين وعلي عبد الرازق، وصولاً إلى فرج فودة ونصر حامد أبي زيد؟ ما موقف الأزهر وهو الذي في قرارة نفسه قد أعلن عنها في العديد من المواقف بتكفير هؤلاء؟
هنا نحاول الكشف عن آراء بعض المُشاركين في المناخ الثقافي والاجتماعي المصري، أو حتى المهتمين بالمتابعة. وقد آثرنا أن يكون أصحاب هذه الآراء من جيل الشباب، المتفاعلين مع الأحداث بدون الانفعال أمام شاشات الفضائيات من المحسوبين على الثقافة، الذين يُروّج لهم ويروّجون للسلطة أفكارها، إضافة إلى أن هؤلاء المشاركين بالرأي لا يزالون في مرحلة البحث والنقد الفكري الجاد، فلم يكوّنوا عداءات تتساوى مع المكاسب الحياتية، وبالتالي فهم أكثر حرّية من أصحاب العقول المرتخية ومحترفي الندوات والمؤتمرات الهزلية، مدفوعة الأجر مُقدما.
ألعاب هزلية تليق بصانعيها
في البداية يرى الباحث في الشأن الإسلامي خالد عبده أن تجديد الخطاب الديني فكرة يلجأ إليها الساسة والمعنيين بأمور الدين من علماء وباحثين، فالساسة الذين فضّلوا لوناً معيناً من الخطابات يتعاملون معه، ويأمنون من خلال انتشاره في المجتمع، ويعتبرون أي خروج عنه مساسا بمكانتهم، وزعزعة لاستقرارهم، لذلك إذا ظهر لون مخالف لما اعتادوا عليه اعتبروه بدعة كما يعتبر أهل الدين كل جديد مبتدعا، وكما يحذّر الواعظ من مستحدثات الأمور يهمّش السياسي المخالف. ظهرت الدعوات في الفترة الأخيرة لتجديد الخطاب الديني، وكلّف أهل السياسة بعضاً من الشباب أو الإعلاميين من أهل الدين بعمل هذا (التجديد) كان ذلك اعتماداً على ظهور تيارات الإسلام السياسي على مسرح الأحداث، بأداء غلب عليه الارتجال والتسرّع وأدين من قبل أهل السلطة ،كما رفضه البديل المعارض للسلطة من أحزاب وتيارات مدنية، ولأن الشعب لا يمكن أن يعيش في رضا وسكينة بدون أن يعود إلى الدين فانتقل الدعم إلى المؤسسات الدينية من قِبل الدولة والشيخ الذي كان يصاحب التيارات الدينية السياسية هو نفسه من أوكلت إليه مهام التجديد، وأصبح الأمر هزلياً عند البعض وأضحوكة حتى أن بعض الخطباء المكلفين بخطب معينة وموضوعات محددة من قِبل وزراة الأوقاف والشؤون الدينية ينصّون في خطبهم بعد الانتهاء منها على أن هذا هو من التجديد. ويضيف عبده… التجديد والتكليف لا يجتمعان من وجهة نظري، فالتجديد ضرورة حياتية تصاحب كافة أمور الإنسان الحي ما تعلق منها بالدين أو السياسة أو الثقافة أو العلوم، وكما أن كثيراً من تفاصيل القديم تثقل كاهل المسلم المعاصر، فإن همّ التجديد ينبع من ضجر المفكر والمشغول بأمور مجتمعه.
الأزهر والتجديد الصوري
ويرى الشاعر الشريف منجود، مؤسس رابطة الخان الثقافية أن النداء بالتجديد من قبل الدولة (كنظام سياسي) أمر بديهي، في هذه الفترة، خاصة ونحن نواجه كثيرا من العنف باسم الدين ولا يستطيع عاقل إنكار ذلك، ولكن السؤال الوجيه الذي نطرحه حول مَن هو المنوط بذلك، وهل حقاً للأزهر دور في ذلك، أقول لك بكل صدق أولا أن الأزهر كبناء معرفي له نموذج معرفي خاص به منذ نشأته وحتى اليوم بعيدا كل البعد عن مفهوم التجديد إذا ما أردنا بالتجديد أن نكون من أنصار رافضي التقليد، أما إذا كانت الدولة تريد التجديد بمفهوم أهل التقليد فهذا له شأن آخر، وفي الحقيقة لن يجدي بل يؤكد على استمرارية العنف الموجود في الشارع، لأن التجديد صوري وليس ماديا جذريا. واجعلني أقول لك حقيقة .. إن حركة جماعة الإخوان المسلمين هذه كانت قائمة على أنها دعوة لتجديد الفكر الإسلامي، ولأنهم من أنصار التقليد صاروا إلى ما صاروا إليه، وصار من يرفضهم كافرا ومن ينزع عنهم سيطرتهم منقلبا ومنافقا، فإذا أرادت الدولة أن تثور على الفكر الديني فيجب الخروج من التقليد ومن عباءة رواده وأنصاره ومن هم على شاكلة هذا.
ويضيف منجود .. وعن نقد المناهج ونقد الأزهر فهذا أمر خطير للغاية، لأن هناك نداء اليوم بكل صراحة أن الأزهر هو المؤسسة الرسمية للدين الإسلامي، وفي الحقيقة هذا بعيد عن الإسلام لأنك تعلم أنه لا يوجد كهنوت فيه ولا يوجد رئيس لهذا الدين، ولكن لأن مصلحة الدولة والأزهر معا أن تكون هناك مؤسسة للدين تستطيع الدولة أن توجهها لما تريده، وتستطيع المؤسسة أن تحافظ على هيبتها ومكانتها التي ترزق مشايخها الخير والمال الكثير، فهذه المنفعة المتبادلة جعلت لهما مصيرا واحدا لذا هذا ما جعل الدولة تنشر فكرة أن الأزهر مؤسسة الدين الرسمية، مخالفة بذلك مفهوم الإسلام الذي لا يعطي سلطة لأحد على أحد باسم الدين. لذا إذا ما قمت بنقد الأزهر فإنك قانونيا تقوم بنقد الدين وبالتالي تدخل في قضايا ازدراء أديان وما شابه. وفي نهاية المطاف أؤكد لك أن المؤسسة التي أجهدت وعطلت نصر أبو زيد، وكفّرت وضيقت الخناق على طه حسين ورفضت ورفدت شيخا منها كالشيخ علي عبد الرازق، ولم تكتف بذلك بل ما زالت تعطل وترفض وتقتل بالكلمات من يخالف ثبوتها، لن يكون لها دور في التجديد، وإنما دورها دوما في تقييد العقل وتشتيت الثورة وتثبيط الفكر. كما أن كلامي هذا لا يعني أن لأي أحد أن يقوم رؤية تجديدية للفكر الديني فهذا أمر مهم أن نعرف أن المنوط به التجديد من استطاع أن يحقق تلك القاعدة الذهبية التي نادى بها الإمام محمد عبده في نهاية كتابه «الإسلام بين العلم والمدنية» التي أوضح ما معناه أن من حق أي شخص توافرت فيه معرفة اللغة وتاريخها وعلومها وفنونها وتاريخ الإسلام وأحداثه، ونحن نضيف وامتلك النقد كأداه معرفية كاشفة بكل ما يحوي من مناهج تستطيع أن تساعده على الكشف والتدقيق لأن ينجز إنجازا علميا حقيقيا في التجديد الديني وفي الحقيقة هذا جهد لن يستطيع أن ينجزه سوى الباحث الجاد الذي يملك أدوات البحث والنقد وأولها الموضوعية.
الجماعة الثقافية ودورها المخذول
ويوضح الصحافي والروائي أيمن غانم الأمر من ناحية أخرى، إذ يرى أن المثقفين هم السبب الأول في ما يحدث، فيذكر أن الأمر يتجاوز تجديد الخطاب الديني، وقد خسرنا بالفعل الإنجاز الفكري والثقافي الحضاري بتأثيره الكبير في المجتمع، الذي تحقق على أيدي المفكرين والمثقفين المصلحين في بداية القرن العشرين وحتى منتصفه، فما أنجزته الجماعة الثقافية في تلك الفترة في مواجهة المؤسسات ومقاومتها كان كبيراً. فالخلل الآن في الجماعة الثقافية ذاتها، بانعزالها عن المجتمع وتشتتها، وغياب الحد الأدنى من الاتفاق بينها، وعجزها عن الالتحام بالجماهير والتأثير فيها، وغياب إنتاجها الحضاري، إضافة إلى اعتمادها خطاباً إما انهزامياً يائسا، وإما متعالياً، وإما غامضا مضطرب الهوية، وأخيراً مُمعنا في التبعية للغرب لا يملك أدنى فرصة للنفاذ إلى المجتمعات العربية وروحها.
ويُضيف غانم… لم تعد الجماعة الثقافية جزءا من المجتمع، ولا إنتاجها في الفكر والأدب والفن والإعلام مؤثراً، على الرغم من أنها لا تواجه مقاومة من المؤسسات كتلك التي واجهت نظيرتها في فترة ما قبل خمسينات القرن الماضي، وإن اِدعت غير ذلك، فالحديث الأهم إذن يجب أن يدور حول تجديد الخطاب الثقافي، وحول تحمّل الجماعة الثقافية لمسؤولياتها تجاه المجتمع، وبناء هوية تلائم الضمير الجمعي ولو في الحدود الدنيا، وهذا لا يتعارض مع التنوع الفكري والثقافي، وإنما الحديث يدور في اتجاه مشروع عام، فالخطاب الديني الرجعي حالياً هو نتاج مجتمعي، تمدد كثيراً ونجح في امتلاك كل الآليات للوصول إلى الجماهير، وأعاد بناء ثقافة المجتمع في غياب تام لتأثير مضاد، أو مشروع مقاومة من الجماعة الثقافية، التي أدمنت عزلتها وانحسار دورها، وصناعة المعارك الوهمية في ما بينها، والتقوقع في «غيتوهات» متحفزة دائما ضد «غيتوهات» أخرى. والحقيقة أن الساحة حالياً خالية تماماً أمام الخطاب الديني الرجعي لينتج وله جمهور عريض من المستهلكين، والحديث عن مواجهة هذا الخطاب أو حتى الحد من تأثيره عبر المؤسسات مثل الأزهر، هو إضاعة للوقت ولا فائدة منه، ولسوف يكون الأمر مجرد ردود على أفكار وجدال فقهي، وتبقى الذراع الأكثر طولاً في المجتمع للخطاب المتطرف، ولا أمل إلا في منتج ثقافي قادر على النفاذ إلى المجتمع والتأثير فيه.
مواجهة الخصوم السياسيين ليس أكثر
وأخيراً يرى المخرج السينمائي أحمد بسيوني أنه منذ أن نادى الرئيس الموسوم بسِمة المصلين على جبينه بضرورة تحديث الخطاب الديني، والرجل لم يكن يقصد التجديد الحقيقي أو الثورة على الجمود الذي خلقه التمسك بالنص وما نبع من تفسيرات التابعين والصالحين، وإنما اقتصر طموحه في التجديد على ما يفيده في معركة السلطة مع جماعة الاخوان، معتقداً أن سدنة الإعلام وكهان الأوقاف والأزهر سيوجهون سهامهم لطعن كل ما يرتكن اليه جماعة الإخوان من أفكار وفتاوى، لكنه فوجئ أن الأمر تحول لصراع بين السدنة والكهنة حول مَن له الحق في التصدي للامر! البحيري مرتاد أندية الليونز، أم الشيخ مفتول العضلات ربيب العمامة الأزهرية، ومَن على شاكلتهما مِمَن اتخذوا من الموضوع سبوبة مؤكدة الربح. إضافة إلى أن المجددين وجدوا أنفسهم في مواجهة وصدام مع النص المؤسس للفكر نفسه وهو النص القرآني الموصوف بالأزلية والأبدية، فتحول الأمر للعبث واللهو حول قضايا وشخصيات فرعية كقضية الأحاديث الضعيفة وشخصيات الأئمة، كالبخاري وابن تيمية وابن الجوزية وغيرهم من جُمّاع الحديث، فارتضى المتناحرون الطواف حول الفروع بدون المساس بالجذور، وهو ما لم يفض إلى أي نتيجة سوى التتويه الإعلامي عن قضايا حياتية لا تقل خطورة عن أفكار الأصوليين.
وأضاف بسيوني أن الرئيس ــ الذي وجد أن الأمر لم يسر وفق رغباته ــ آثر السلامة بقوله إنه لم يقصد ما ذهب إليه المتناحرون على الظهور أمام كاميرات السدنة، بدون أن يملك الجرأة على توضيح ما يقصد، وبالطبع بعد ذلك الهزل تحول أمر تحديث الخطاب الديني إلى عبث. فتحديث الخطاب الديني رغم الاختلاف على المسمى المائع لن يكون بدعوة سياسية ذات مصلحة أو بإقصار الأمر على الكهنة والسدنة المسترزقين من القضية وبالتالي تمييعها، وإنما ربما يأتي تلقائياً إذا ما استطاعت سلطة ما توفير تعليم حقيقي لجيل ما يخلق لديهم وعيا حقيقيا غير موجه، وطريقة تفكير سليمة لا تخضع لتهويمات القدامى، وإنما لمتطلبات الحاضر الذي سيكونون فيه.. إن وجدوا.
محمد عبد الرحيم