ثلاثة معارض تشكيلية في القاهرة تستعرض الطقوس الشعبية وتعكس الروح المصرية
[wpcc-script type=”c7eee2fd343d92666750d3f8-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: رغم مظاهر التحديث التي طالت المجتمع المصري، أو مَسّته ظاهرياً ــ الحديث عن مظاهر دون مرحلة الوعي بالتحديث وتبعاته ــ سواء في طريقة ارتداء الثياب، أو نوعية الطعام، أو الاهتمامات والتعايش مع التكنولوجيا بطريقة استهلاكية، إلا أنه في صميم الوعي المصري لم يزل المعتقد الطقسي والاجتماعي هو أقوى ما يُسيطر على هذا الوعي.
ومظاهر الحياة تصر على إثبات ذلك، خاصة في ما يرتبط بالطقس العقائدي أو المرتبط بالعقيدة، التي تضرب جذورها في المعتقد القديم، الذي ابتعد ونجح في تحوير وتطوير المعتقد الديني حسب هواه. كطقوس الزواج والميلاد والموت. وما يرافق هذه الطقوس من تداعيات تعرف كيف تصوغ الشخصية المصرية، سواء في التعامل والتفسير لما يحيط الإنسان من ظواهر يعيشها ويعامل من خلالها، من دون الوعي التام بقدمها قِدم وجود المصري على هذه الأرض. الأمر الآخر هو أن البيئة المصرية رغم شكلها الذي يبدو متشابهاً، إلا انه في حقيقته مختلف ومتنوع تماماً، فهناك المدينة والريف والجنوب والسواحل والصحراء. لكل طقوسه وعالمه، حتى إن استظل مصادفة تحت مُسمى ديانة معينة، ويبدو أن هذه الحالة تسيطر على الفن التشكيلي المصري في الكثير من مراحله، رغم تنوع الأساليب والمدارس الفنية التي ينتمي إليها الفنان.
وهو ما توضحه عدة معارض تقام الآن في القاهرة تتناول الطقس الشعبي المصري ومظاهره في حياة المصريين، أولها معرض الفنان عادل ثابت المُقام في قاعة الباب في دار الأوبرا المصرية، والمعنون بـ«هنا القاهرة 2»، كذلك معرض «ألوان مائية من اليونان والنوبة» للفنان جلال الحسيني، المقام في غاليري دروب، وأخيراً معرض «الأحلام»، الذي أقيم في غاليري «آرت كورنر» الذي ضم أعمالاً لثلاثة من الفنانين، هم أيمن فؤاد، فتحي علي ورضا خليل.
«قاهرة» عادل ثابت
يتناول الفنان عادل ثابت عبر تقنية ألوان الزيت والأكريلك العالم الشعبي للقاهرة، من خلال تجسيد المظاهر الاحتفالية أو الحياة اليومية، من بيع وشراء، أو طقوس الزواج والاحتفاء بالمولود الجديد/السِبوع، كذلك الشخصيات الشهيرة بحسب مهنتها، كبائع الفول، البلياتشو، عازف العود، الفرق الموسيقية الشعبية في شارع محمد علي الشهير، وكذلك المايسترو المعهود وفرقته. يحاول ثابت تجسيد حالة من الاحتفاء والبهجة بهذه الشخصيات وعالمها، من حيث اللون والتكوين. فمنها ما لم يزل نراه الآن في الشوارع والأزقة الشعبية، كبائع الفول على سبيل المثال وعربته الشهيرة، إلا أن الفنان يُصر على تجسيده من زمن بعيد إلى حدٍ ما، كجزء من ذاكرته، إضافة إلى بعض التحويرات في الخطوط والملامح لما يقربها من تصاوير شخصيات الملاحم الشعبية الشهيرة. ويتضح ذلك من الخطوط المنحنية التي تتكون منها تفاصيل الشخصيات وعالمها، سواء الملامح الجسدية للبائعات في الأسواق أو الفنانين الشعبيين ولاعبي العصا والتحطيب في الأفراح، أو من خلال الآلات والأدوات التي تصبح من مفردات الشخصية. فالفنان يحاول التوثيق وخلق أيقونات شعبية تكاد تختفي في شكلها التقليدي إلا من بعض الأماكن والأحياء الشهيرة بتراثها في القاهرة.
الأحلام
ويأتي معرض «الأحلام» ليجسد حالة الطقس الشعبي هذه من خلال مفردات أخرى، بخلاف اللوحات الضاربة في التجريد، التي يعبّر من خلالها الفنان أيمن فؤاد، لتبدو حالة الحلم من خلال التضافر والمزج اللوني بالأساس، فنجد التجسيد الذي يخفت صوته لحساب الخط واللون. بخلاف ذلك تأتي أعمال كل من فتحي علي ورضا خليل، لتصبح النغمة الأعلى لهذا الحِس الشعبي والطقسي في الوقت نفسه. وإن كان علي يلتزم بتجسيد الطقس كما يبدو في الواقع، كحالة الفرح الشعبي في قرى الريف المصري، كالفرقة الشعبية والراقصة المعهودة، إلا أن التشكيل البصري والتكوين يخلق حالة من التكثيف في العمل، كالقبض على لحظة خاطفة، خلفها الكثير من التفاصيل والعلاقات، وخلق إيقاع اللوحة من توافق جسد الراقصة وحلقة العازفين وآلاتهم والمساحة الخالية التي أمام الفرقة التي تتشكل منها ساحة الرقص. هذه المساحات التي تبدو كلقطة عامة، تصبح لقطة قريبة في لوحة رضا خليل يجمع فيها عازفا ومنشدا شعبيا ومُستمعا في حالة تفاعل وتماهٍ مع ما يستمع إليه. فالإيقاع هنا يتخلق من ملامح وجوه الشخصيات التي تتصدر اللوحة، من دون تفضيل أحدهما عن الآخر، وما يجعلها في حالة اتزان من حيث التكوين، هو وجود المرأة في العمق. فالرجل والمرأة وقد أصبحا كل جمهور المُنشد وعازف الناي تتباين حالتيهما ــ محاولة جيدة لتجسيد الصوت في اللوحة ــ فالاندهاش وشيء من الحزن الذي يبدو في عين المرأة وملامحها، يصبح أسىً يلف الرجل، وصبرا شديدا على ما يشعر به. ويخطو خليل خطوة أخرى في تجسيد وتلخيص المجتمع المصري في لوحة من أفضل لوحاته في المعرض، نرى من خلالها جميع الرموز التي تعيش من خلالها الشخصية المصرية، رموز لا تخفي دلالتها، بداية من العصر الفرعوني ووصولاً إلى اللحظة الراهنة. هنا نرى كل الموروثات ما حدث بالفعل وما رويّ وتم تداوله من حكايات أو أساطير… كصوت أم كلثوم، امرأة ترتدي غطاء رأس/حجاب المصريات المعتاد، رجل وحبيبته فوق دراجة بخارية، شكل البراق كما في المخيلة الشعبية، تابوت وتمثال فرعوني، ورجل يُسبّح بجمال الطبيعة التي منحته لتفاصيل جسد امرأة تعرف تماماً ما تمتلكه. هناك حالة من السعادة تحيط الجميع، وكأنها حيوات مُمتدة من شخصية لأخرى، من دون انفصام أو غربة عن هذا العالم، رغم حالة التغريب التي جمعت كل هذه العناصر في مكان واحد، وهو ما جعل من اللوحة عملاً مُتميزاً، يحمل فكراً وتأويلاً لما كان وما هو كائن في طبيعة وتكوين المصريين.
الحسيني و«عالم الجنوب»
تتمثل تجربة الفنان جلال الحسيني في الكشف عن طقوس عالم الجنوب المصري ــ بلاد النوبة ــ ومظاهر الحياة وطرائقها، محاولاً تجسيد وتكثيف مفردات هذا العالم والبيئة التي تبتعد عن التناول السياحي، كما في الكثير من الأعمال، التي تتعامل مع هذا التراث وكأنه عالم اختفى. هنا يحاول الحسيني استحضار هذه المظاهر وهذه البيئة، من خلال وجوه النساء ونهر النيل ومراكبه الشراعية الشهيرة، كذلك أدوات تزيين البيوت وجدرانها، بأن يجمع في لوحة واحدة ما بين البحر والجبل والبيت النوبي، إضافة إلى طقوس الأفراح في عالم النساء، من الغناء والضرب على الدُف. وجوه كثيرة لنساء مُبتسمات. يحتفي الفنان بالطبيعة ولا يفصلها عن الشخصيات، بحيث يخلق حالة قصوى من التناغم بينهما. من ناحية أخرى تبدو صعوبة المادة التي يعبّر من خلالها الفنان عن هذا العالم، الألوان المائية/الأكواريل، فاللحظة التي يقوم بتجسيدها، سواء مُستمدة مباشرة من الواقع (النيل، النخيل، الجبال) أو التي يُعيد تخليقها بحيث تجتمع الأماكن معاً، هي لحظات تبدو شحنتها التعبيرية من القوة التي لا تحتمل الخطأ في تنفيذها ــ من حيث التقنية ــ وهو ما يشبه حالة من الانفلات الحسي مع الدِقة الشديدة في التنفيذ. ذلك ما يميز هذه الأعمال والتي يجعلها قريبة من إحساس المُتلقي، ويبعدها كما أسلفنا عن اللوحات السياحية والدعائية لهذه البيئات القديمة قِدم الوجود المصري نفسه.
محمد عبد الرحيم