ثلاثي الطفولة: الطويل… جاهين… سعاد حسني

في الأسبوع الماضي فتحت أسئلة حول العفوية والخبرة.. تساءلت إن كانت العفوية بوسعها أن تتدرب لتصبح نهجا أو أسلوبا لمبدع ما! وربما كانت الإجابة على سؤال كهذا، تبدو صعبة، فكيف يمكن أن ندرب طفلا على الحفاظ على طفولته وهو يكبر أمامنا، خصوصا أن اول ما يرفضه الطفل حينما يبدأ بتجاوز السنوات العشر الأولى من عمره هو عالم الطفولة، لأنه ببساطة يحاول الانتماء إلى عالم الكبار.

ثلاثي الطفولة: الطويل… جاهين… سعاد حسني

[wpcc-script type=”e2040765670225a59ed64917-text/javascript”]

في الأسبوع الماضي فتحت أسئلة حول العفوية والخبرة.. تساءلت إن كانت العفوية بوسعها أن تتدرب لتصبح نهجا أو أسلوبا لمبدع ما! وربما كانت الإجابة على سؤال كهذا، تبدو صعبة، فكيف يمكن أن ندرب طفلا على الحفاظ على طفولته وهو يكبر أمامنا، خصوصا أن اول ما يرفضه الطفل حينما يبدأ بتجاوز السنوات العشر الأولى من عمره هو عالم الطفولة، لأنه ببساطة يحاول الانتماء إلى عالم الكبار.
لا أظن أن الطفولة أو العفوية أشياء يمكن التمرس بها عن طريق التدريب المتواصل، فالحفاظ على روح العفوية أصعب بكثير من فقدانها. ومسألة أن تتحوَّل العفوية إلى اُسلوب قد تبدو مستحيلة، فأول شروط العفوية هي أنها تخرج «عفوا» بلا تدرب، وأحيانا بلا كثير من التفكير. حينما نبدأ بالنمو، نحن أيضا نبدأ بالتفكير، والتفكير هو ما يبدأ بتشكيل شخصياتنا وبالتالي أسلوبنا، إن كان في الحياة أو في أي إبداع كان، أو حتى في العمل والعلاقة بالمحيط والكون. لا تخرج العفوية كلحظة ساذجة بالتأكيد، لكنها أيضا لا تخرج بعد عميق تفكير إلا عندما تكون في قلب النفس، وفي قلب الشخصية. الارتجال في الموسيقى، وحينما يقف عازف على المسرح، هو نوع من حالة عفوية، ولكنها أيضا تأتي من تمرس وأحيانا تقف وراءها خبرة عميقة وأسلوب.
الموسيقار الراحل الكبير فريد الأطرش في ارتجالاته يرسم أسلوبه الشخصي الذي ما أن تسمع عوده حتى من غير أن تراه تعرف أن هذا العود هو عوده، وأن تلك الريشة هي ريشته، هو أسلوبه الذي يظهر أمامنا بقوة حتى في لحظات الارتجال العفوية. هذه الحالة تنسحب أيضا على الموسيقي الكبير منير بشير، كما تنسحب على العملاق السنباطي، كلهم نعرفهم من مجرد حركة أصابعهم بين الأوتار وهم يعزفون على آلة العود، كلهم في لحظة ارتجاله يرسم شخصيته الخاصة، وبالتالي أسلوبيته التي لا تتشابه مع غيره. الموسيقار جميل بشير في ارتجالاته يشكل حالة تجريبية عفوية متمرسة، وبالتالي يبني أسلوبيته بمنحى خاص تماما، كما فعل أيضا من ذكرناهم سابقا. العفوية ليست حالة واحدة، فهناك منها ما ينتمي إلى عالم الكبار المتمرسين، ومنها ما ينتمي إلى عالم الطفولة حتى لو كان المبدع ليس طفلا. تحتاج العفوية إلى نفحة الطفولة في براءتها الغضة، لكنها في الوقت نفسه ليست تلك الخبرة التي تبني اُسلوبا، إلا عندما تصبح عفوية ناضجة، وبالتالي تصبح خبرة في جانب منها، وتبني أسلوبيتها الخاصة. عندما أفكر بالعفوية التي تمتلك جانبا كبيرا من الطفولة غالبا ما يذهب ذهني فورا إلى الراحلة سعاد حسني وهي تغني، وطالما تساءلت ماذا لو اتخذت سعاد حسني الغناء مهنة، هل ستتخلى حينها عن الكم الهائل من الطفولة و«دلعها»؟ هل سيختفي اُسلوب العفوية الذي يسيطر على كل جملة موسيقية تغنيها، لتصبح متمرسة؟ قد يقول قائل إن ما غنته كان وراءه اُسلوب موسيقي صاغه الملحن؟ بالتالي فإن العفوية والطفولة ترتبطان باللحن وليس بالأداء الغنائي للفنانة، لكن من جانب آخر فالألحان في أغاني سعاد حسني وكلها للموسيقار الكبير كمال الطويل ارتكز ت على الروح الخاصة بمن سيؤديها، وليس من الممكن مثلا أن تغنيه المطربة الكبيرة أم كلثوم بهذه الطريقة. وفي حالة كهذه تتكامل روح الموسيقى مع روح الغناء والكلمة فتشكل كلها حالة منسجمة من هذه العفوية الخالصة.
وهنا نلاحظ عفوية الموسيقي المتمرسة، التي تلعب في ملاعب الكبار ألعاب الطفولة. من الممكن أن تصبح العفوية أسلوبية، بل أن تسم أعمال مبدع ما بسمتها، وفي رأيي أن حالة كهذه حالة تلعب في أرض جديدة وترسم أسلوبها بين عالمين، كما أنها تعيش بين هذين العالمين، عالم الأطفال وعالم الكبار. الأسلوب يصبح أسلوبا حينما يمتلك أدوات خبرته، وكمال الطويل حالة مثالية لما أود الذهاب إليه، ففي ألحانه ارتبطت هذه الحالة التي تمتلك روح الطفولة والعفوية، لكنها أيضا استفادت أقصى الإفادة من خبرتها ورسمت أسلوبها الخاص تماما. الموسيقار الطويل ظهرت روح الطفولة لديه في أكثر من عمل، ولو استعدنا عمله مع الراحلة وردة في أغنية «بكره يا حبيبي» سننتبه إلى هذه الروح التي سحبت بالمطربة إلى أرض الموسيقار، فقد بنى الطويل عبر رحلته الموسيقية موسوعة تمتلك الحس الطفولي وتدمجه بعالم الكبار، عاشت بين عالمين جميلين واستقت منهما معا وبالتالي بنت أسلوبيتها. أذكر أنني كنت مرة أقلب صفحات الإنترنت باحثا عن مؤلفات الموسيقار الطويل، فظهرت لي أغنية «جبار» التي غناها العندليب الأسمر في ويكيبيديا على أنها من ألحان الطويل، حينها توقفت أمام هذه المعلومة وأنا أقلبها في ذهني مرارا، وقبل أن أفكر بأنها من ألحان الموجي، كانت مجرد استعادة اللحن تنفي تماما من ذهني مسألة أن ملحنها هو الطويل.
فأسلوبية الطويل وكذلك الموجي وكلاهما بنى مدرسته الأسلوبية الخاصة، لها معالمها الخاصة، ولا يمكن أبدا أن تخطئ الأذن المتمرسة بين هذين الأسلوبين. هناك موسيقى بوسعها أن تبني خبرة متمرسة مرتكزة على روح تجمع الطفل إلى الشاب إلى الكهل، وببساطة متناهية هذه الموسيقى توقظ فينا روح الطفولة. كلما احتجتم العودة إلى ذكريات أجمل، استمعوا إلى الثلاثي الطفل، الطويل ملحنا وجاهين شاعرا وسعاد حسني مغنية.

موسيقي عراقي

نصير شمه

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *