جدارية الحياة
[wpcc-script type=”9a1736e6e15d558b12f389e2-text/javascript”]
الفن ألوان أذكر منذ أكثر من عشر سنوات أن الفضائية المصرية كانت تعد لبرنامج فكرته جميلة ومحرضة على الإبداع في مكان مختلف، يومها طرح عليّ مخرج البرنامج فكرة أن أقدم كموسيقي رؤية لفيلم تلفزيوني قصير، مدته لا تتجاوز الخمس دقائق، على أن أكون في الفيلم مخرجا، يومها أعجبت بالفكرة، فهي تجربة في مكان مختلف لم أعتد عليه، على الرغم من أنني أحب فكرة الإخراج، حتى لو كانت على نطاق بسيط، كإخراج الشكل المسرحي لكثير من الأعمال الفنية الموسيقية التي قدمتها.
فكرت كثيرا وأنا أقلب في رأسي صورا وألوانا، ثم ألح عليّ مقطع شعري علق في ذهني، بينما كنت أقرأ ديوان شيمبورسكا، «حتى يرى الموسيقي، صنع لنفسه كمانا من زجاج».
فكرة الشفافية بحد نفسها فكرة آسرة، فكلما زادت شفافية الشيء زادت رقته، وهذه الفكرة تسري على كل شيء في الحياة، ابتداء بالإنسان وانتهاء بالجماد. أغمضت عينيّ وبدأت أحاول أن أرى الموسيقى، كانت فكرة الفيلم القصير قد بدأت تتبلور لديّ. جلست على كرسي، أمسك بديوان شيمبورسكا، كان الكرسي هزازا، وأعدت قراءة المقطع الشعري، ثم نهضت بسرعة إلى علب الألوان وبدأت أرمي بها على جدار أبيض بحركة خفيفة، كنت لا أرسم الألوان بحد ذاتها، بقدر ما أعبر عن رؤية الموسيقى، لم أحمل ريشة لأرسم حرف صول مثلا، لم أستخدم أبدا أي نوتة موسيقية، كان تعبيري عن رؤية الموسيقى خارج الدلالات السطحية تماما، كان تعبيري ملونا، في ألوان تختلط بعفوية بلا هندسة سوى هندسة العين في رؤيتها للمشهد الموسيقي الملون. هكذا كان الفيلم القصير، وكان تعبيري عنه هو المعنى ذاته عن الحياة، كما أراها، جدارية كبيرة كلها ألوان، والألوان ليست جمادا، بل هي حياة في قلب الحياة، تشبه تماما برعم الزهرة قبل أن تتفتح. العلاقة بين الموسيقى والفن التشكيلي علاقة وثيقة قائمة على فكرة العطاء المتبادل، فالموسيقى بلا ألوان تستحيل إلى جماد لا يحرك المشاعر، فاللون يكسر الرتم كما يكسر الروتين، ولأنني أحب الألوان لم أجد يوما متعة في الموسيقى الإلكترونية فشعوري تجاهها تماما مثل شعوري تجاه اللون الواحد، قد يلفتني للحظات ولكنه لن يترك لدي أي مشاعر تخزن في ذاكرتي.
مزج الألوان يشبه مزج النوتات في البناء الهارموني، كلاهما يبني حياة، وكلاهما يحمل المعنى الأعمق للوجود. الألوان لا تلتقي بالموسيقى فحسب، بل تلتقي بكافة فنون الإبداع، فهندسة عمارة مثلا بلا ألوان يسحب منها سحر النظرة العميقة، والشعر بلا لون شعر يبني نفسه بالكلمات ولا يترك أثره في المشاعر. اللون تعبير أقصى عن حركة الحياة كلها. في العلوم الروحية نجد، على سبيل المثال، أن اليوغا هي حالة تدريبية للحصول على اللون، حالة من انتقال إلى لون أعلى، وهي أيضا حالة تعبيرية للمشاعر، فاللون شعور وإحساس، ولهذا نصف إنسانا مثلا بأن قلبه أبيض، فالأبيض حالة معبرة، بينما نرتدي في الحزن الأسود أو سواه من الألوان الغامقة، بحيث يصبح لوننا الداخلي معبرا عنه في لوننا الخارجي.
بين الأوتار هناك ألوان، وكل وتر يبني خليطه مع الوتر المجاور له، بحيث تصبح حركة الأصابع مثلا على الأوتار حركة تشبه زرع حديقة بورود مختلفة الألوان. اللون أيضا فكر وفلسفة عميقة، هو في ناحية منه هندسة لبناء كل شيء، هو حائط للذكريات، والحياة، كما يقال ألوان كذلك الناس. الإبداع يتغذى على الألوان، ومن دون ذائقة حقيقية للون تصبح الحياة باهتة، وارتباط الإبداع باللون ليس ارتباطا بسيطا أو سطحيا. عندما نتجه إلى القرى الريفية أول ما يلفت نظرنا هو الأخضر والألوان التي تحيط به من ورود وأزهار وحتى طيور في السماء، وعندما نستدير إلى أصوات تتضاحك يقع نظرنا على فتيات يرتدين ألوانا غير تلك التي يرتديها أهل المدن، حيث الإسفلت الجاف الذي لا يكاد يتبين له لون، على الرغم من أسوده الحاد، نذهب الآن إلى الموسيقى ونحن في زيارة الريف، سنجد أن الموسيقى في ذلك المكان تشبه تماما ثياب الفتيات المزركشة، وتشبه ربطات شعرهن، كما تشبه الورود والأزهار، وكذلك ألوان العصافير في السماء، هي حالة تشبه حركة موسيقية متكاملة من مقدمة إلى خاتمة، حالة من ألوان تعبر تماما عن كل شيء يحيط بها.
لنتجه أيضا باتجاه الصحراء، حيث رمل يمتد، شمس تنشر أشعتها الملونة، وقليل من نباتات تنتمي غالبا إلى فصيلة الصبار تنتشر هنا وهناك، خطوط تكاد تكون مستقيمة تفصل بين الألوان، فخط الرمال يتلاقى مع خط السماء وتتخلله ألوان أطياف الشمس، فيما الطيور غالبا تشابه ألوانها ألوان الأرض، ولننصت إلى الموسيقى هناك، سنجد أيضا أنها غالبا ستكون ذات رتم مستقيم، لا أعني روتينيا بقدر ما أعني أننا نسمع حركة صعود وهبوط، وربما حركة متوازية مع ذلك الخط الشفيف الذي يفصل بين ألوان السماء وألوان الأرض. الأطباء النفسيون أيضا لجأوا إلى الألوان لنبش العميق من الذكريات داخل الإنسان، فاللون يستطيع أن يعبر في لحظة عن كل مشاعرنا وأحاسيسنا تجاه الأشياء، ليس فقط تجاه تفكيرنا بالكون، بل أيضا تفكيرنا بطبيعة علاقتنا مع الأشخاص الذين يحيطون بِنَا، فكي نرسم شخصا لا نحبه سنستعين بألوان لا نحبها، أو بألوان تعكس في أنفسنا إحساسا منفرا، وعلى العكس يحدث عندما نرسم شخصا نحبه سنجعل من رسمه حديقة من ألوان نحبها. اللون بوسعه أن يكون سجلا كاملا للحياة نفسها. وللألوان بقية.
موسيقي عراقي
نصير شمه