جسور الحب… برج غرينفيل

أنا بايا، وها أنا ذا أجمع الآن أمتعتي ونبضاتي التي تبعثرت في مدينة حضنتني منذ الطفولة.

جسور الحب… برج غرينفيل

[wpcc-script type=”3964cc46cf2a4d397cdbca1c-text/javascript”]

أنا بايا، وها أنا ذا أجمع الآن أمتعتي ونبضاتي التي تبعثرت في مدينة حضنتني منذ الطفولة.

كان المطر يتساقط بحنان فوق عاصمة الشرق الجزائري نقطة نقطة، تمامًا كما تتساقط أحلامي التي بنيتها فوق صخور المدينة… وكم هو موجع ذاك الحنان حين تترجمه الطبيعــة برقتهــا… لو سقطت الأمطار بشراسة مرة واحدة لكانت أخف حـدة علـى التحمـل… كـانت حبات المطر تغسل البيـوت القديـمة والكهـوف والمساجـد العريقـة، وتولي اهتمامًا خاصًا بمسجد الأمير عبد القادر، ربما بسبب علّوه، كنت دومًا أعتقد أن الله يكتب له آيات المحبة برذاذ المطر… وكذلك حي النحاسين، فالله يحب هؤلاء الذين يعجنون يومهم بالعرق، والذين تتشقق أياديهم فينبعث منها الجمال.
كانت الرياح تتأرجح مع الجسور كي تنفخ الحياة في صباح جديد يلتحف مدينة الصخر العتيق.. أجمع أغراضي وأنا أسمع صوت المدينة يعاتبني، يرجوني التريث. فأنا أؤمن منذ صغري بأن الصخرة القديمة في مدينتي تتكلم تنبض بحنان.. لقد أخبرتني جدتي حين كنت صغيرة بأن تلك الصخرة القديمة تخشى الوحدة، لذلك مدت جسورًا وعقدت يديها بصخرة أخرى.. أخبرتني أن هناك صخرتين تشابكت يومًا أصابعهما ببعضها بعضا لترقص فوقهما أحلام المارة.. هذه هي مدينتي… مدينة قسنطينة أو قسمطينة.. مدينة الصخرتين الموصولتين بجسور معلقة بحكايات قديمة بخطوات أناس يحملون مشاعل الحرية والفكر والأمل.. مدينة التراث العتيق حين أمشي في زواريبها، أدرك ضمنًا أن هناك حياة أخرى قديمة تخفق تحتها.. مدينة مرت عليها الحضارات وتركت قبلاتها فوق الأبواب والشبابيك. مازلت أذكر حين دخلت قصر الباي للمرة الأولى… شعرت يومها بأنني أميرة من الزمن العثماني وهذا قصري.. كاد خيالي يورطني بعشق أناس رحلوا وتركوا ذكرياتهم تحيط بالمكان وتستدرج الحاضر إليها.. منحتني اسمي جدتي رقية.. إنها الأمازيغية الأصيلة التي عرفتني على حضارتها وعلمتني عاداتها وتقاليدها، وأبت أن ترحل قبل أن تترك في داخلي الكثير منها.
كانت جدتي تقوم بذبح «ديك رومي» على عتبة البيت اعتقادًا منها أنه يبعد الشرور وينده للخير. ومن بين العادات والتقاليد التي ورثتها عن جدتي أن أقول: صحة وراحة، حين أنتهي من العشاء كتعبير شكر على نعمة الطعام، وعلمتني كيف أطبخ طبق الكسكسي بالدجاح، وأقوم بتوزيع بعض منه على الجيران حتى وإن كانت الكمية التي طهوتها قليلة كتعبير عن المحبة والتضامن معهم وكعمل رحمة يجلب الخير لأصحابه..
كيف أنسى وصية جدتي بأن أحتفظ بزيّها القبائلي الذي أهداها إياه جدي بعد الزفاف.. كانت تتباهى بالجبة الحريرية المزخرفة بخيوط ذهبية وبرسومات تحتفل بالتراث الأمازيغي الأصيل.. جبة اختلطت فيها ألوان الفرح كلها؛ الأحمر الأرجواني الملكي والزعفران الثوري والأخضر الشامخ.. وتحيط خصرها بحزام عريض تتوسطه فوطة حمراء تتدلى منها شرائط ملونة، وقد زينت الحزام بليرات ذهب جمعتها عبر الأيام.. كلّما اشترت ليرة تثقل بها حزامها ولا تنسى أن تعرضه على جاراتها مرارًا وتكرارًا حين يأتين لزيارتها.. وكانت الجارة على الرغم من رؤيتها وتمعنها بالحزام مرات سابقة عديدة إلا أنها تبدي الإعجاب نفسه من جديد، وتشهق الشهقة نفسها، وكأنها تراه للمرة الأولى… كنت أرى جدتي وزائراتها واسترق السمع إليهن من خلف باب غرفة الجلوس الخشبي المعتق، الذي كان يشيخ مع جدتي، ويفقد مع الأيام لونه البني الجميل، وتظهر التشققات في ثناياه.
اليوم أترك خلفي المدينة التي كبرت فيها وأحمل ذكرياتي، وكل ما علمتني إياه جدتي وحقائبي التي تتثاقل بفعل الوداع لأبدأ من جديد.. كنت أنظر خلفي فأرى الحب.. نعم الحب… كان واقفًا ينظر نحوي ويرفع لي جسور المدينة كي يوقظ داخلي ذكريات أحاول طمسها لأقوى على الرحيل.. كانت نظرات حبيبي تقي الدين مبلولة، كنت أدرك ما كان يحاول قوله صامتًا.. كنت أشعر بنظراته وهي تستدرجني للبقاء.. شعرت في تلك اللحظة بأن حبي له كالغيمة البيضاء التي تتشكل من الدموع… ليتني مشيت ولم ألتفت خلفي.. لو لم أرفـع عينـيّ وأنظـر إليه طويلًا لما كان ليستدرج كل الأحزان المتراكمة في أعماقي… كانت لحظات وجـع لـم أعـرف مثلهـا سابقًا ربما لأنها اللحظات الأكثر صدقًا في علاقتنا.. ربما لأننا نواجه بالوداع واقعنــا المـر.. نواجــه فقرنـا… نواجـه عجزنـا عـن الاستمرار معًا.
كان قلبي يشطر وبملء إرادتي، وبت متأكدة من أن هناك شيئًا ما بين الحياة والموت… وما بين الحب واللاحب… وما بين النهاية وفعل النهاية… إنه زمن يشبه كرسي الاعتراف.. كلما يلقى عليه غزير الدموع والخطايا ومراجعة الذات والحنين والفقدان والانكسار. ولكن تبقى محاولة السفر واستعادة الأمل بالحياة، فقد كنت أعرف تمام المعرفة بأنها فرصتي الوحيدة لأعيش حياة كريمة، وأساعد أخواتي الصغيرات اللواتي تركتهن بعهدة جارتي الخالة نوارة على التمسك بالحياة.
٭ مقطع من رواية «جسور الحب.. برج غرينفيل» تصدر قريبا

٭ روائية لبنانية

 

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *