جماليات الصورة الفوتوغرافية: الضوء والظل في أعمال العراقي عبد الرسول الجابري

ترتبط الصورة الفوتوغرافية مباشرة بالواقع عبر مكوناتها التي قد تبدو محدودة ومحصورة بين الضوء من جهة والظِلْ والعتمة من جهة أُخرى، غير أن تداعيات مكوناتها الذاتية تستدعي قراءة نبهة، لأنها ذات محمولات سردية، أي ثمة واقعة، ونماذج في واقعة.

Share your love

جماليات الصورة الفوتوغرافية: الضوء والظل في أعمال العراقي عبد الرسول الجابري

[wpcc-script type=”6c2593f2207e022faed81322-text/javascript”]

 

ترتبط الصورة الفوتوغرافية مباشرة بالواقع عبر مكوناتها التي قد تبدو محدودة ومحصورة بين الضوء من جهة والظِلْ والعتمة من جهة أُخرى، غير أن تداعيات مكوناتها الذاتية تستدعي قراءة نبهة، لأنها ذات محمولات سردية، أي ثمة واقعة، ونماذج في واقعة.
هنالك إشارات، وتتوفر أيضاً مؤشرات ذات بنية فكرية عامة، قد تتشعب إلى اجتماعية، سياسية، فلسفية، إلا أنها واقعة تحت التعبير والتأثير المباشر، لأننا إزاء تلق بصري ينقل صورة الواقع، ولا يرسمها بالكلمات أو الخطوط والألوان. وعند الفنان عبد الرسول الجابري تتحرك الصورة وفق معطيات فنية عالية. فعلى الرغم من أنه يعبر بالأسود والأبيض، إلا أنه يعمق الدلالة عبر هذه الثنائية، أي يمنحها بلاغة تعبير أكثر عمقاً ودلالة. فعين كاميرته تتآزر مع عين المصور، خلال الاختيار الأمثل لزاوية اللقطة، وهو في ما توفر لدينا من صور خصت (البورتريه)، وهي أكثر تماساً بالبنية السيكولوجية للنموذج. فهذا النمط من التصوير يُتيح الفرصة للمصور أولاً أن يُدقق في الملامح، وما تُسفر عنه من سمات تخص البنية النفسية من جهة، وتُتيح للمتلقي البصري كي يجري تجواله في الصورة ومكوناتها من جهة أُخرى. فلما كانت الصورة حمالة أوجه، فهذه المحمولات تتركز في البنية الفنية مباشرة، وبتقنية الكاميرا ووعي الفنان. ذلك لأن اللقطة تخضع لاختيار ذاتي قبل كل شيء، ومن ثم تعطي بُعداً اجتماعياً حين تخرج من حيز المصور باتجاه المتلقي. والجابري بما يمنح صورته من تقنية، ورسم يقربه إلى مجموعة أسئلة تخص كل المكونات في كادر الصورة، لأنه أساساً يوازن بين الضوء والظِلْ، عبر رسم متقن ووفق حساسية مفرطة في التعامل بهاتين المفردتين، وبالتالي يضعنا أمام مساءلة الصورة، أي محاورة مكوناتها، وفق حيويتها الذاتية وتشكلاتها الموضوعية. علماً أن نماذجه هذه تخضع لصيرورة التأمل الذي لا تُلزمه حدود معينة، فالتجاوب والتحاور يتمان بين مكون الصورة والمتلقي البصري. فشيخ يجلس تحت جذوع أشجار عملاقة، يُمسك عصا، وينظر إلى أسفل. فصورته الشعبية، تُعطي خاصية اجتماعية، وتأمله يندرج ضمن نظرته لواقعه، لكنها في المعنى العام تندرج ضمن السؤال الفلسفي، الذي خص الوجود الإنساني. فالمناخ الذي يُكلل الصورة ينتمي إلى الخريف، وفي هذا معادل موضوعي بين وجود الشيخ والفصل، أي أن المحتوى خضع لصيرورة الوضع العام، الذي أضاف لوضعه الخاص صفة التفرغ للتمعن في الوجود. سردية الضوء والظِل، متشابكة وفق تشكيلات الوضع النفسي للشيخ. فهما يعملان كأداتين على تعميق حوار الرجل الصامت مع الوجود، ويؤشران إلى دايلوك وانثيال ذاتي. الظِل تعامل مع النموذج من باب تقسيمات المشهد، سواء المكان أو تقاسيم الوجه وهيئة الجسد. كذلك الضوء عمل على الكشف عن المشرق في الجسد كاملاً.
إن صراع الثنائية في صورة الجابري محايد، كما يبدو لنا كرائيين بصريين. فهما لا يصعدان حدة الصراع، بقدر ما يكشفان، بسردية هادئة، عن طبيعة الشخصية المزاجية. وفي لقطة لصبية متأملة في وجودها. يبدو فيها التعادل والتوازن بين الضوء والظِل أكثر تقنية، لأن الضوء يكشف عن مناطق ساعدت على كشف البنية النفسية للصبية، التي عكست قوة الإرادة في شخصيتها، كذلك كان تسليط الضوء على نصف الوجه، وحصراً على العين المبصرة والمدققة بالأشياء، قد أضفى على اللقطة الفنية هذه سمة جمالية، تُضاف إلى جمالية الصورة لديه كفنان يتعامل بحدود فنية. إن التأمل عند نماذجه يدفعه إلى اختيار صياغة أكثر حساسية في التعبير. لذا نجده يتميز في هذا وفق أسلوب فني مقتدر في اختياراته لكل عناصر نجاح الصورة كلوحة فنية، أو نص معبر عن حالة إنسانية.
كذلك تعامل مع نماذج كانت واقعة تحت وقع الظرف النفسي، كالصبي والكرة، وما نجده من ضوء مسلط على أهم موقع في الجسد، وهو الوجه وتطلعات العينين، كذلك تقوسات وانحناءات الكرة، مقابل وجود المرأة الطاعنة في السِن، وهي تتناول طعامها على رصيف الشارع. لقد جسد بؤس الحياة عند هؤلاء المشردين على الأرصفة، لكنه ضمن تقنية الصورة، أظهر الشارع وكل مكونات الصورة على سمة صاعدة في الجمال، مستفيداً من ثنائية التعبير المتاحة لديه، بتصرف يواكب حراك الفرشاة عند الرسام. أما علاقة النموذج بالمكان، فقد عبّرت عنه صورة، احتوت سعة مكان مخرب، وطفلة تتيه وسط الركام. الطفلة بدت ببدلة بيضاء نظيفة وهيئة أنيقة كسرت قوة المكان وطبيعة خرابه، لأنها أحدثت جدلية واضحة بين شكلين في الوجود، بل هو صراع بين إرادتين، إرادة الخراب الناتج عن الحروب، وإرادة الإنسان متمثلاً في الطفلة التي تُشير إلى المستقبل. فهي بمثابة الصيانة للمكان المدمر.
لعب الضوء والظِل دوراً فائق التقنية لرسم ملامح الصورة وأسلوب تعبيرها. أما لقطة الطفل الذي يتناول طعامه من صحن كبير نسبياً قياساً لعمره، الذي يتجسد في الصورة كثيراً هي حالة الرعب التي تحيط بكل مكونات الطفل، الأسود غلب الأبيض ليس في الإفاضة اللونية وحسب، بل عبر رسم الملامح الغامضة والمكشوفة في آن. الرعب خاصية إنسانية مدمرة، واختيارها نادر من منطلق البناء السيكولوجي، لكن الجابري كما بدا لنا أكثر قدرة على محاورة أهم مبنى عند الشخصية والواقع بكل مكوناته. لقد ركزت عين الكاميرا على عيني الطفل، عبر منحيين من الاحتمالات، لعل الخوف عنده من فقدان الحيازة لما يحتويه الصحن من غذاء، وهذا يكشف طبيعة جوعه، وبالتالي الظرف الذي يعيش في حراكه. ولا يخرج المشهد عن ظرف الحرب والتشريد. فالفنان يمتلك عفة فنية، فهو لا يُفرط بمكونه الفكري، بل يحصره ويركزه في تجسيد وتعميق البنية الفنية للصورة. فهو فنان مقتدر في التعامل مع ثنائية الضوء والظِل، أو ما اصطلح عليه الأسود والأبيض، كما هو عند جاسم الزبيدي، فؤاد شاكر على سبيل المثال. فهذان فنانان تعاملا مع الثنائية، وتجاوزا محورها الأول. والجابري حوّل الثنائية إلى تقنية متطورة وصاعدة في تعبيرها عن بنية النموذج في الصورة، كذلك عمل على تصعيد عناصر مشهد الصورة، خلال تواؤم المكون البشري والمكون المادي، ونقصد به الأمكنة. فالفنان في تعامله مع المكان، حاول أن يتوفر على معادلة متوازنة بين النموذج وعناصر المكان. فليس النموذج منفصلا عن مكونه المكاني، وليس المكان مستغنيا عن نموذجه. هذه الخاصية الفنية والموضوعية أعطت تصعيداً لسردية الصورة الفوتوغرافية عند الفنان. فهو لا يُفرط بالعلاقة بين جميع عناصر الصورة، لذا نجده أكثر حرصاً في التعامل مع ثنائية التعبير المتاحة، والمؤكِدة على أصالة فنية.

٭ كاتب عراقي

جماليات الصورة الفوتوغرافية: الضوء والظل في أعمال العراقي عبد الرسول الجابري

جاسم عاصي

كلمات مفتاحية

Source: alghad.com
شارك

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Stay informed and not overwhelmed, subscribe now!