حارةُ الطي .. شَراسةُ الذكرىَ

بدونَ تعثّرٍ في التفاصيلِ أو بحثٍ جزئيٍّ في عتمةِ اللغةِ ومجاهيلِ الليل، أقولُ حارة الطي وأتذكرُ تلكَ البيوت التي خذلنا أبوابها وناسها في شتاءٍ مفترضٍ، أتشابكُ طفلاً وصبياً وكهلاً في صورةٍ واحدةٍ، وأتجول في التاريخِ المدفونِ تحتَ مدنِ نسوتِها، وحين تدقُ الساعةُ دقتَها المتأخرةَ عن موعدها، أحملُ هذا النص المهزوم من المدن البطيئة إلى وجوهنا المحطمة بأحجارِ الفجيعةِ، وهولِ الحدثِ، وأنشدُ نشيدَ اللاهثين على مذبح الكلام، وأعرف ـ ولو متأخراً ـ أن النشيد مرّ بالمنفى كالسهم، وأحدثَ ثقباً كبيراً في المشهد.

حارةُ الطي .. شَراسةُ الذكرىَ

[wpcc-script type=”b5ad2692a34876f0059fc033-text/javascript”]

بدونَ تعثّرٍ في التفاصيلِ أو بحثٍ جزئيٍّ في عتمةِ اللغةِ ومجاهيلِ الليل، أقولُ حارة الطي وأتذكرُ تلكَ البيوت التي خذلنا أبوابها وناسها في شتاءٍ مفترضٍ، أتشابكُ طفلاً وصبياً وكهلاً في صورةٍ واحدةٍ، وأتجول في التاريخِ المدفونِ تحتَ مدنِ نسوتِها، وحين تدقُ الساعةُ دقتَها المتأخرةَ عن موعدها، أحملُ هذا النص المهزوم من المدن البطيئة إلى وجوهنا المحطمة بأحجارِ الفجيعةِ، وهولِ الحدثِ، وأنشدُ نشيدَ اللاهثين على مذبح الكلام، وأعرف ـ ولو متأخراً ـ أن النشيد مرّ بالمنفى كالسهم، وأحدثَ ثقباً كبيراً في المشهد.
أخرج إلى مضخة الشمس، أموّهُ جثتي لينبتَ ظلٌّ باردٌ على جبيني وتنهضَ الرطوبةُ عن كاهلِ روحي. أقول: ربحتُ الحربَ قبلَ الترابِ، أحرض الأشجار على محاكمتي، لأنيَّ صرتُ نداً لها، ثمَّ كالخاسرِ أسكتُ تماماً وأنكّسُ روحي مثلَ أعلام في بلدٍ منكوب، ليرتميَ غبارُ الرغباتِ فوقَ أوراقِ الكتابةِ، وينتظر بلا جدوى صخب الأرواحِ كي يطيرَ إلى حيثُ يخرجُ من التختِ الحديدي كلَّ تلك الدروب التي مشتني ولم تقلْ لي (العبارةِ نفسها التي تقالُ لأيّ طفلٍ يبلغُ السابعة)، كانَ صوتُكَ عالياً في حفلة (العقيقة).
تقول حارة الطي لي ما لم تقله لأحد
فأدفعُ عربةً محملةً بأحذيةِ الوقتِ وجواربِ الحنينِ إلى النص، كيلا يمشي حافياً، فتدمى قدماه، أصيحُ بالشوارعِ التي تلمّعُ أحزانَها كلَّ لحظة وموت: أنتِ التي احتملتِ هذا الغياب، ابتسمي، ابتسمي، ابتسمي ليخرجَ من صُلبِ وجنتيكِ أطفال يتراكضون في مَداكِ، ويصيرون طائرات ورقية، تزينُ السماء. أصيحُ بنهرٍ خذلناه في غفلة الحبِّ، قبل أن نعبرَ إلى دولةٍ أخرى ـ حاملينَ رمادَ أسمائِنا ـ عليكَ أيها العابرُ أن تعقدَ صلحاً مع الغيم وتُنجزَ وعد السنابل في ليلةِ الحراسة، أصيحُ كلّما مرَّ عابرٌ وأخشىَ الصدى يتعقبُني في الأرصفة البعيدة كأسرابٍ من الخفافيش تتصادمُ في الفراغ الليلي.
تقولُ حارة طي:
لا أستطيع الوصولَ إليه، ولكني حين أكون في وحدتي مع الليل، اعدُّ له ما استطعت من الدموع وخناجر الذكريات، حي طي: يجرُّني خلفه لاستقصاء تاريخ الغبارِ النابتِ على أطراف الأرصفة، حي طي يضع قفلاً على أحلامه ويتعقّب ـ حافي القدمين والقلب ـ روائحَ المطر الذي مشى تحته الرعاة، حي طي: أن تُحِبْ في ظهيرةٍ صلعاء، أن تُحَبْ بدشداشتك المصفّرةِ من الشاي والدخان، والحكايا، أن تنام على صدرك البيوت وهي تروي حكاياتها المزركشة، أن تضحكَ في الوجه الغامض حتى البكاء، أن تبكيَّ أيها العاشقُ الفاشلُ في زحمة اللغة، وتخرجَ ما في قلبِك من صهيل، أن تنزفَ أجملَ سنواتِ عمرِك في صحراءِ الورقةِ وغيابات المعنى، لتثير حفيظة كلِّ الذين لا يعرفون حارة الطي ولا يسيرون في ركبها السائر نحوَ الأعلى.. أنا الذي لم يبقَ مني سوىَ خشبٌ ثقبَهُ الحنين، أذكرُ حينَ كنتُ بينَ غبارِ الجنوب وطينِ حارةِ الطي، كنتُ أركضُ خلفَ سُخرية القش وما أتوهمهُ ساحرةُ البراري، بحثاً عن مقبرة تتسع لقبرِ شاعرٍ، يستلذُ بقنص الكلام في خريف حزين، أحيانا كنتُ أهدم بيتي لأشيَّد قبري على شكلِ صدور النساء، وهنَّ ينهضنَّ بحمولةِ القش وهجير الظهيرة، وأحيانا كنتُ أحاولُ إغواءَ فتاةٍ ملوثةٍ بأمطارِ الصيفِ وملطخةٍ بالسنابل، تُخثّرُ الهواءَ برائحةِ الأرضِ وتخفي بين نهديها وشوماً شكل المقبرة وبينها قبري كما تصورتُهُ مرةً، أحيانا، ومن أجلِ إبعادِ المتكلمِ عن الكلامِ، أمدحُ موتَ الذكريات الشرسةِ، التي تنبحُ خارجَ النصِّ، وأرجمُ عصافيرَ تبحثُ عن تاريخِ الطواحينِ في ساعةٍ متأخرةٍ من المجاعةِ. أليست الطواحينُ تقشّرُ قمحَ الأعيادِ وتخزّنُ عقابها، ليندم الربيع.
تقولُ حارة الطي قولاً أتبيّنَه وأحفظهُ من بينِ الأسماء والأفعال، فترتبك أصابعي بما لديَّ من ذكريات، ويختلطُ الحبرُ بأحزانِ من فروا إلى داخلي وناموا هانئين فيه، لا أسميّ أحداً، كي لا تتغيرَ التشابيهُ حينَ أهرب من هذا النص، فأنا منذ هربت من شوارع حارة الطي ـ يومياً ـ أسمعَ أنينَ العابٍ شعبيةٍ في سراديب رأسي ولهوَ أطفالٍ مشاغبين في أزقتهِ.
كنا صغاراً بأجسادٍ ليّنة ودشاديشَ مخطّطةٍ بعرقِ الظهيرةِ وبقايا البساتين الصيفيةِ، نلتمُّ في حفلةِ (الختّان)/ الطهور،ِ نصنع وقتاً من الضحك والبطولات ـ مثلاً ـ كنّا نتبوَّلُ على ظلالِ بعضنا ونرسم دوائر في التراب لإقناع الظل بالمكوث حتى مساء الغد، أو حتى آخرِ الحياة، وأحيانا كنّا نكتب أسماءَنا بمياه قضباننا الساخنة على الأرض فخورين بفحولتنا ومنتشين ببراءة السقوط الحر، وكنّا نُعلق أرواحَنا الهشّةَ في شاحنةٍ محمَلةٍ بالخرفانِ وذكرياتِ الحقولِ، لنتحملَّ قسوةَ القصَّاب، ووضوح فكرة الموت، وكنّا، وكنّا واليوم لا أحد. عُذراً… عذراً ذاكرةُ الهاربِ لا تتِسع لمزيدٍ من الذكريات، وحارة الطي أكبرُ من قارةٍ جليديةٍ، تذوبُ في فمي كلّما تذكرتُ حسنَ الذي دَفنتُهُ هناك!.

٭ شاعر سوري
٭ حارة الطي الخاصرةُ الجنوبية لمدينة القامشلي والمفتوحة بإباء على ريحِ الجنوب

حارةُ الطي .. شَراسةُ الذكرىَ

حسن شاحوت

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *