حضارة الكون موسيقى
[wpcc-script type=”aeab9f8c2be0c05284049b32-text/javascript”]
هناك تقاليد في كل مكان من هذا العالم تؤشر إلى حضارات وأعراق وجنسيات، وتندرج ضمن هذه التقاليد الملابس والطعام وأشياء كثيرة مختلفة، تعرفنا أن هذا الشخص أو هذا المكان ينتمي لحضارة ما.
اللغة أيضا تجمع شعوبا وتفرق أخرى، كذلك الموسيقى، فنحن بوسعنا أن نتعرف إلى حضارة ما من خلال موسيقاها، باستطاعتنا تحسس علاقة شعب بالموسيقى، ليس فقط من خلال سماعها إنما أيضا من خلال تلقيها، فموسيقى الأمريكان من أصول أفريقية على سبيل المثال موسيقى حارة وتدل عليهم تماما، نشعر من إيقاعاتها السريعة والرشيقة، وكذلك من خلال إيقاعاتها القوية، بتدفق دماء حارة في هذه الشعوب التي يسارع أشخاصها للرقص وتحريك أجسادهم بمجرد أول ضربة موسيقية.
هكذا نرى الصينيين على سبيل المثال يعزفون موسيقى أشبه ما تكون بحديقة عصافير صغيرة، هم يلجأون في موسيقاهم لمحاكاة الطبيعة، ويلجأ الزنوج لمحاكاة الحركات، وتلجأ شعوب أخرى لموسيقى تصنف بأنها روحانية. تختلف الأذواق ليس فقط في صناعة الموسيقى، بل في تلقيها أيضا، فنحن قد لا نتلقى مقطوعة موسيقية «صينية» مثلا بالطريقة نفسها التي يتلقاها شخص من شعوب المنطقة، وكذلك فإن الفرنسي لا يتلقى مقطوعة موسيقية شرقية لموسيقار الأجيال عبد الوهاب مثلا بالشغف نفسه الذي نتلقاها نحن به.
لو استمعنا إلى الموسيقى الكردية سنجد أيضا أنها تشبه الأرض بجبالها ووديانها وخضرتها، موسيقى نشعر عند سماعها بأنها تحمل تاريخا عريقا وتراثا يحارب دفنه ومحوه ويرجع تأريخها لعدة آلاف من السنين والتقاليد التي تتقطع جغرافياً بحكم السياسة، وتجمعها الموسيقى بحكم الروح. لكل حضارة موسيقى، ولكن الحضارات نفسها تتناغم وتتبادل العطاء، وحدها الحضارة التي لا تستطيع فهم مسألة التبادل الثقافي، هي التي ستبقى بلا امتزاج، وبالتالي تموت لأن التمازج والتبادل أحد الأسس المهمة للثقافة، وبالتالي لبقاء الحضارة من دون أن تطمس هويتها. في عالمنا الآن هوة كبيرة بين مفهوم التبادل الثقافي ومفهوم الانغماس الثقافي، فمن الجيد أن نختزن في داخلنا أكثر ما نستطيعه من ثقافات العالم، على أن تكون ثقافتنا الأم ثقافة قوية بحيث لا نطمسها خلف ركام كبير من ثقافات مختلفة، وبالتالي تضيع وتدفن ونصبح كالغراب الذي أضاع مشيته فما عاد يعرف كيف يمشي. التمازج الموسيقي مهم جدا، خصوصا أننا في عصر تبادل معلوماتي في كل شيء، والمعرفة الموسيقية بثقافات مختلفة تجعلنا أكثر قدرة على تفهم الآخر، بل وتفهم شخصيته وسلوكه، فالموسيقى كما أسلفت مثلها مثل اللغة تدلل تماما على خلفية سامعها وعازفها ومؤلفها أيضا.
الموسيقى باب لغة واسع وممر عميق ومضيء يقودنا إلى تواريخ وأمكنة وحضارات وشعوب، هي باب من نور نتلمس تحت ضوئه جدران تاريخ قديم، نقرأ عبرها حتى اللغات القديمة، ففهم موسيقى حضارة ما يعتبر مدخلا كبيرا للوعي بأسس وأخلاقيات الشعوب التي أنتجت هذه الحضارة. الجذر الموسيقي أساس لقيام شعب، مثله مثل اللغة، فكما أن حضارة لم تقم بلا لغة، فإن الأمر نفسه ينسحب على الموسيقى، فليس هناك في التاريخ القديم أو الحديث ما انبنى من غير موسيقى، فهي لغة أخرى لتفاهم يجمع ولا يفرق، في حين أن اللغة نفسها أحيانا تستطيع التفرقة. في التبادل الحضاري بين الشعوب امتزاج لأشياء كثيرة، فحتى أننا نرى في شعب منطقة جغرافية واحدة أحيانا تنوعا ثقافيا في تقاليده وموسيقاه، وكما أسلفت فإن في الموسيقى الكردية لها أبعادها في الدرجات الصوتية المتحركة في كل سلم موسيقي كما في استخدام إيقاعات بطريقة مختلفة عن مدن تبعد عنها ساعتين فقط، ولكنها لا تشبهها في شيء، ونستطيع تلمس تضاريس الأرض وانحناءاتها، فإن الموسيقى تتأثر أيضا بالأمكنة التي وجدت فيها، حتى أن طبقات الأصوات التي تغني نرى فيها تنوعا كبيرا، ولكننا كدارسين نستشعر ترددات الحنجرة وأيضاً أقول تضاريس الحنجرة التي قد تتواءم مع تضاريس المكان.
أحيانا أستطيع تمييز المكان الذي ترعرع صوت ما فيه من طريقة الصوت الخارج من حنجرته، وهكذا نصنف صوتا ما بأنه صوت جبلي أو ريفي أو بدوي على سبيل المثال.
أعود إلى التمازج الموسيقي بين الشعوب، وأؤكد أنه لا يمكن أن يقوم من غير ثقافة عميقة وأساسية بموسيقى الوطن أو الحضارة الأم، وإن قام على غير هذا الأساس فإنه سيكون هجينا ضعيفا ومشوها. بشكل شخصي آمنت دائما بالتمازج الموسيقي، وباستخدام الموسيقى مدخلا نحو الآخر الذي يشبهني ويختلف عني في الوقت نفسه، وعبر تاريخي مع الموسيقى قمت بحوارات موسيقية ممتعة مع موسيقيين وفنانين من مختلف بقاع العالم، وكنت أشعر دائما بأن لغتنا الموسيقية الشرقية تستطيع أن تقود العالم في حوارات جميلة وبناءة، وأن تتزعم أحيانا الحوار الحضاري، على العكس مما يحصل مع اللغة عندما تجالس السياسة والسياسيين. عبر رحلات طويلة ومختلفة حاورت بالعود آلات العالم، وكنت دائما أخرج من الحوار وقد فتحت بابا جديدا لحوار آخر ومختلف، استفدت خلالها من الموسيقى الكردية كثيراً للتنوع في الأداء.
في مقالات مقبلة سأتوقف أكثر من مرة عند بعض هذه التجارب في الحوار مع الآخر.
موسيقي عراقي
نصير شمه