«حوارات نجيب محفوظ» لمحمد سلماوي… رحلة في رؤى الراوي الأكبر للحكايات
[wpcc-script type=”14d37fa73d06bb8de18d8f52-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: مرّت منذ أيام الذكرى التاسعة لرحيل نجيب محفوظ (11 كانون الاول/ديسمبر 1911 – 30 آب/أغسطس 2006)، وبهذه المناسبة ــ أو مُصادفة ــ أصدر مركز مؤسسة الأهرام للنشر، كتاباً بعنوان «حوارات نجيب محفوظ»، ليضم الحوارات التي أقامها نجيب محفوظ بعد حادث محاولة اغتياله، مع الكاتب محمد سلماوي.
هذه الحوارات التي امتدت قرابة الـ 12 عاما، والتي نشرت تباعاً في جريدة «الأهرام» المصرية، بداية من 22 كانون الاول/ديسمبر 1994، وحتى قبل رحيل صاحبها بقليل في نهاية 2006. يستعرض سلماوي في مقدمة الكتاب أن هذه الحوارات كانت باقتراح موضوعات سواء منه أو من محفوظ نفسه، في جلسة أسبوعية تمتد لحوالي الساعة أو أكثر، وقد تجمّع لديه ما يُقارب الـ 500 ساعة بصوت محفوظ، يتحدث خلالها في شتى الموضوعات عن الثقافة والسياسة والأدب.
والكتاب يضم مُختارات من هذه التسجيلات، حاول مُعده أن تتخذ سياقات متسلسلة من حيث الموضوعات. هذه الحوارات التي يؤكد سلماوي، وقد أكّد نجيب محفوظ من قبله ــ من خلال أعماله الأدبية ــ حوارات آنية ومستقبلية عن مصر والحياة والموت والدين والفن. صدر الكتاب في 419 صفحة من القطع الكبير. وسنحاول استعراض مشاهد انتقائية من هذه الحوارات ــ في سياق يستوعبه عرضاً في جورنال ــ التي ترسم نظرة شبه كاملة لأفكار ورؤى صاحب الصوت الأعمق في الرواية العربية.
عالمية
يرى نجيب محفوظ أن للعالمية مفهومان، كمي وكيفي، والأول يعني أن العمل الأدبي يتم قبوله في أي مكان، بصرف النظر عن قيمته الأدبية، ويدلل على ذلك بالقصص البوليسية، وحالة أغاثا كريستي وزعت كتبها في العالم أكثر من جميع الكتاب الكبار مجتمعين، وهي بذلك تصبح كاتبة عالمية. أما مفهوم العالمية من حيث القيمة، فلا ينصرف إلى مدى ودرجة انتشاره، بل لقيمته من حيث الجودة والرُقي. فالمقارنة بين أغاثا كريستي وتوماس مان توضح عالمية الانتشار وعالمية القيمة. وفي الشكل الأخير نجد عدة صفات .. كشمول الفكرة والعمق والفلسفة والرؤية، ومن يمتلك هذه الصفات هو أديب عالمي، سواء حصل على نوبل أم لا. فالجائزة التي لم تمنح طوال تاريخها إلا لحوالي 90 كاتباً، تستدعي التساؤل .. فهل هم فقط كل الكُتاب العالميين في القرن العشرين؟!
أدب عربي
وعن واقع ومستقبل الأدب العربي يقول محفوظ .. للأسف الأدب العربي الآن يقع بين شقي الرحى، ففي الكثير من الدول العربية يُعاني الكتّاب من الرقابة المفروضة عليهم من قِبل بعض الأنظمة السياسية .. أما في الدول العربية الأخرى فإن الاتجاه إلى التطرف الديني يُشكّل قيداً آخر على الأدباء لا يقل خطورة عن الرقابة السياسية. لذلك وجدتُ في بعض الأدب العربي الحديث اتجاهاً نحو الانسحاب من الحياة العامة والانغلاق على النفس، بالتعبير عن موقف الشخص عن الجنس أو الدين، فضلاً عن أن الأدب ككل اهتزت مكانته لمنافسة التلفزيون له. وبالسؤال عن إمكانية تغيّر الوضع الأدبي قريباً، كان رد محفوظ: صحة السؤال هي .. هل سيتغيّر المجتمع العربي قريباً؟
عبث
يُفرّق محفوظ ما بين أسلوب مدرسة العبث في أوروبا، وبين ما انتهجه في كتابته، موضحاً أن عالم ما بعد الحرب العالمية خلا من اللألوهية والإيمان، فسقط في اللامعنى، أما في حالتنا فإن هزيمة حزيران/يونيو 1967 أحدثت ما يُشبه الارتجاج في المخ، حيث فقد العالم من حولنا رصانته ومعناه، وأصبحنا في حالة شك وألم، لذلك كان أسلوب العبث واللامعنى هو أفضل الأساليب الفنية للتعبير عن هذا الوضع، ولكن الأساس الإيماني القوي جعلني أستخدم هذا الأسلوب للتعبير عن الحالة الطارئة التي مررت بها نتيجة الإحساس بالهزيمة، كمحاولة للخروج بمعنى في النهاية، فالشك هنا من أجل المعرفة.
ويمكن أن يُقال إن البحث عن الحقيقة هو القيمة التي سرت في كل ما كتبت بعد 5 حزيران/يونيو، حتى عادت إلي الروح مرّة أخرى في «ملحمة الحرافيش» التي كتبتها بعد نصر تشرين الاول/أكتوبر 1975.
قسمتي ونصيبي
عن «مولود برأسين» تدور قصة لمحفوظ تحت هذا الاسم، ويقول بشأنها … هذا قدرهما أن يكونا اثنين مشتركين في جسد واحد، وقد كان «قسمتي» في الحكاية هو الداعي للتعايش السلمي، بينما «نصيبي» فكان أكثر عدائية، وأقل استعداداً لقبول شريكه الآخر. وهذا الوضع قد يُشابه ما يحدث في فلسطين الآن، حيث نجد الإسرائيليين هم الأقل استعداداً على قبول الآخر، والتعايش على أرض واحدة. فالسلام القائم على الاستسلام هو هدنة مؤقتة. فقد كان في إمكان العالم تجنب الحرب العالمية الثانية، لو لم تكن معاهدة فرساي فرضت على ألمانيا الاستسلام الكامل. وبالنسبة لموت أحد التوأم في النهاية، فهو لا يعني أن أحدهما يجب أن يموت، فحتى بعد موته، فسيظل الآخر يحمله معه لأن استئصاله سيُنهي حياته بدوره، فلا بد من التعايش بين الطرفين، والنظر إلى ما يُنتجه الحاضر.
مزوّرون
يتطرق محفوظ إلى ظاهرة تزوير الكتب ومؤلفاته بشكل خاص، وأنه يتفاجئ بصدور طبعات هنا أو هناك في العديد من البلاد العربية، ويذكر موقفاً كحكاياته القصصية … كنتُ جالساً في مقهى ريش، وجاءني رجل لبناني طويل مهيب، وعرفني بنفسه قائلاً: أنا الذي زورت كتبك، من «عبث الأقدار» حتى «ميرامار»، قلت له: أهلاً وسهلاً، ماذا تريد. فقال: أريد أن أعقد معك اتفاقاً، لأنك بفضلي تُقرأ في جميع الدول العربية .. بصراحة إن المزورين كثروا، وأصبح التنافس بيننا شديداً وعنيفاً، لذلك أردتُ أن أتفق معك حتى أكون أنا مزورك الوحيد .. وذلك نظير حقك المادي طبعاً. فوجدت كلامه منطقياً، ووقعت معه الاتفاق.
قراءات أولى
يذكر محفوظ أنه لم تكن هناك كتب للصغار وقتما بدأ القراءة، فكانت القراءة منحصرة في القصص البوليسية والعاطفية الفارغة، ومعظمها كانت مترجمة، حتى أن بعض المترجمين كانوا يؤلفون القصص بالكامل، ويوقعونها كمترجمين، إضافة إلى التصرف الشديد والإضافة في الترجمة، فيمكن للمترجم أن يورد وسط قصة فرنسية حديثاً نبوياً، وكنتُ أنا أشتريها، فأقول .. «يا سلام إن جي دي موباسان يعرف أحاديث الرسول!!».
الجبلاوي
لماذا نفترض أنه رمز للذات الألهية ــ يتحدث محفوظ ــ غن المقصود بـ «الجبلاوي» هو قوة التدين والإيمان في النفس الإنسانية، ثم إن موته هذا لم يره أحد في الرواية، ولا حتى مَن أذاع الخبر. ولعل في هذا إشارة إلى فترة ما في تاريخ البشرية أنكر فيها العلم وجود الدين، وكان يزهو بنفسه. فقد وجد «عرفة» في الرواية انه قد سقط تحت سيطرة الحاكم/ناظر الوقف، بعد ان قيل إن «الجبلاوي» قد مات، فعاد هو نفسه ليقول لابد من إحياء «الجبلاوي» مرّة أخرى، فما معنى ذلك؟ معناه أنه إذا كانت قد مرّت عليه فترة شك أراد أن يتخلص من أي قوة عدا قوة علمه، وألا يثق بأي شيء إلا نفسه، فقد أدرك بعد ذلك أنه بحاجة إلى المبادئ، يُقيم عليها علمه، ويكون في ذلك خير حارته والناس والخلاص من الشر. فعلم «عرفة» لا قيمة له إلا بمبادئ «الجبلاوي». فالرواية تنتهي إلى الإيمان، وقد اتهمت بالكفر لأنها رواية، لكن البعض أصر على قراءتها وكأنها كتاب!
أحلام
وعن نصوص «أحلام فترة النقاهة» يقول محفوظ: إن الأساس المحرك في هذه القصص هو حلم حقيقي، لكنه ليس مُساوياً للقصة كما تنشر. وهذا بالنسبة لي معين جديد للكتابة، فقد كنتُ في السابق تأتيني أفكار الكتابة من حديثي مع الناس، أو من جلوسي على المقهى، أو غير ذلك من مخالطتي اليومية للحياة.
وقد تصوّرتُ بعد أن انقطعت عن هذا الاختلاط بسبب ظروفي الصحية أن مصدر إلهامي قد ذهب بغير رجعة، لكني فجأة وجدته يطل عليّ من جديد في أحلامي، وكأنه يقول لي.. لا تقلق سآتي لك بالأفكار والقصص دون أن تخرج إلى الشارع.
حرية
يقول محفوظ … هل تظن حين تقول لي أنتَ حُر فذلك سهل؟ إنك حين تقول لي أنتَ لست حراً فذلك أسهل، لأني بذلك أكتب لك ما تريده وينتهي الأمر، لكن حين أكون حراً فمعنى ذلك أن عليّ أن أُعمِل عقلي، وأحكّم ضميري وأزن كلامي وأنظر إلى الحاضر والمستقبل، وإلا فلن يقرأني أحد، ولن يصدقني أحد، ولن يحترمني أحد.
زهقت
أنظر إلى ما مضى بالرضا، ليس لأن ما فعلته خلال حياتي لا يمكن طلب خير منه، وإنما لأني أشعر أنني فعلت ما في جهدي، وبالطريقة السليمة. على أنه يُداخلني شعور كالذي يشعر به مَن طال به الأمد في مكان ما حتى مَلّ … «الحقيقة إني أنا زهقت».
محمد عبد الرحيم