حياة افتراضية حارة
[wpcc-script type=”df4c4b0b0877eb7672753ac8-text/javascript”]
عندما يبدأ المساء، يلبس الليل صوت السكون العميق، إلا من صوت المطر الرتيب؛ مطر الغربة، ينهمر حبة حبة على شباك مدينتي وغربتي، وفي قلبي أنا. في هذه اللحظات، يصبح طقس روحي غائما يميل إلى الغياب، وأشعر بضجيج الحياة ينسل بعيداً عن ضفتي.
أعيش خواء الحياة الافتراضية، بكل عبثيتها وفجاجتها وسحرها، ومعانيها المتناقضة، تناقض وتيرة الحياة اليومية. الأمر هكذا ببساطة، ما دمت لا أستطيع أبدا أن أرى رجفة الشوق في مقلة من أحب، ولا متعة الشعور بملامسة حقيقية، تؤكد على خصوصية المشاعر.
لا شيء أكثر متعة من نافذة خضراء صغيرة، على سطح بارد أفتحها متأنية، وأطل منها على الطرف الآخر؛ هناك. عالم متخيل مع أشخاص افتراضيين، كائنات حميمة، أتشارك معهم الهاجس والذاكرة، وفحيح الحياة الحارة، تتمازج وتتجاذب مفردات الحب والفرح والحرب والفقر والخراب والوجود والعبث والموت، إذ تتحول عوالمها الثرية إلى تفاصيل يومية، تعطي جرعات من قوة الاستمرار، إلى أيام عادية، هزيلة الأحداث.
في هذا الزمن البائس أنهل الحياة الافتراضية بشغف، ناسية أو متناسية حلاوة النظر إلى اختلاج الروح في مقلة العيون، ومتعة دفء اللمسة في لقاء حقيقي، وجمال حركة الشفاه حين تبوح، ودفء الأنفاس في نجوى الكلام، وأتنفس الصعداء حين أرى نوافذ الأصدقاء الفيسبوكيين خضراء لامعة.
هم إذاً هنا …
وكلما ازداد عدد النوافذ الخضراء الصغيرة، أفترض أن دفئاً من نوع خاص ينساب عبرها لينسكب في قلبي أنا، ما يمنحني المزيد من زخم الحياة الافتراضية وقوتها، في حين ينتابني الأسى، حين تكون هذه النوافذ الصغيرة، بلا لون موصدة، ما يعني المزيد من العزلة المتلازمة، ربما مع مفردة الموت، ونهاية تعني أن نوافذ الآخرين تصفق في وجهي، وأنني وحيدة تماما، فتغلق الصفحات، وتعلو لغة الخصام، ويصل الحوار إلى طريق مسدود، أعزي نفسي وقتها، إن في الاختلاف غنى، ولكن أي غنى، وأي اختلاف، أوصلنا إلى مستنقع الجنون هذا؟
أغرق في زحمة الحياة الفيسبوكية، وأعيش تناقض هذا العالم العبثي، أقبله كما هو، غير عابئة بتحليل عشوائية صورة سريالية يرسمها عالم صغير، لعالم حقيقي يدور خارج إطار الافتراض. أنتقي الياسمين هدية لمن أحب، أرسلها لتصل الطرف الآخر طازجة، بلهفة الاشتياق. أترنم بحنان بأغنية حب قديمة، وأتذوق بشهية أكلة لذيذة، وأراقب بشغف اشتعال الصفحات الفيسبوكية، وانهمار الأخبار والمشاعر والقصص والخلافات والتناقضات، واستعد للدخول في حياة ليلية، متناقضة عجيبة لا تشبهها أي حياة أخرى.
طالما تساءلت، كيف لمشهدين صارخين في الاختلاف، أن يجتمعا معا أمام الذائقة البصرية الحيادية؟ مثلاً، مشهد الحقول الغارقة في نشوة الربيع، وقد زهت بندى الصباح، وثمة سنونوة تشدو لفرح اللقاء، وقُبرّة هناك تغني لوداع المساء، في حين تترى أمامك مشاهد، تجعلك تقف عاجزاً ومحترقاً، ليس بالألم وحده، ولكن بالدهشة، لبشاعة ما يمكن أن يفعله الإنسان، عندما تتشظى روحه، ويجوع الوحش بداخله إلى وجوه تكتوي بلظى النيران، ورجفة النداء إلى رعب اللحظة الأخيرة، من بيت ينهار في احتراق دمعة حرى، في عين يتيم في برد المساء، تجد ابتســـامة النــزع الأخــــير في بحـــر مجــنون.
وفي هذه اللحظات لا أدري إن كان هناك ما يمكن له أن يضيء، ولو قليلا هذه المساحة المعتمة من داخلك، غير أن تختار.
اختر نبض الحياة الحار دائما، اختر كيمياء الحب والالتصاق بالآخر، فلا شيء سواه يمكن أن يقودك إلى عذوبة الشعور، إن هناك ما يزال ما يستحق الحياة.
ما حدث حقيقي، ودمارنا حقيقي، وحده الفرح، هو افتراضي في زمن الغربة!
٭ كاتبة سورية
شادية الأتاسي