خالد زيادة في كتابه «الخسيس والنفيس»: في المدينة العربية بنية المجتمع الإسلامي والتأصيل لمعاداة التحديث
[wpcc-script type=”947fa5258d1557125b48685e-text/javascript”]
القاهرة ــ «القدس العربي»:نشأ الإسلام سياسياً، ولم تكن فكرة الكيان الواحد الذي يجمع شتات العرب بعيدة عن الثوب الديني، بل أهم مفرداته على أرض الواقع. ولم يكن فعل الهجرة إلا سبيلاً لتأسيس مكان وسَن أحكام تضبط العلاقات بين أفراده. وهو ما يمكن أن نطلق عليه الآن مجازاً (دولة). وبعد مرور أكثر من قرن وأربعمئة عام، يبدو أن هذا الكيان هو ما يتوهم الأصوليون بعودته. حالة الرّدة هذه الآن والعودة بالدولة إلى فكرة المدينة هي ما يتناولها كتاب «الخسيس والنفيس … الرقابة والفساد في المدينة الإسلامية» للسفير اللبناني في القاهرة، والمندوب الدائم في جامعة الدول العربية خالد زيادة، والذي صدر مؤخراً في طبعة مُزيّدة عن الدار المصرية اللبنانية، في 140 صفحة من القطع المتوسط. فأي عالم منشود يرجو عودته الأصوليون؟ وهل يتفق هذا العالم وتعاليم الدين في الأساس، أم أن السُلطة الفقهية، والمُمارسات اليومية لمجتمع المدينة لم يتخلفا لحظة عن السلوك العربي قبل أن يرتدي عباءة الدين؟ وبمعنى أدق هل غلبت الديانة الأعراف والتقاليد الاجتماعية قبلها، أم حافظت عليها قدر المُستطاع، خاصة في النظرة الطبقية والتعامل مع الفئات الأدنى، والتي تُشكل الأغلبية داخل أي كيان، سواء كان يطلق عليه مدينة الرسول أو الدولة الإسلامية؟
الفقهاء والبنية الأولى للدولة
كان لوجود النبي مُحمد بين أصحابه، وقيامه بجمع السلطات بين يديه، من تشريع وتأويل وتنفيذ أحكام سواء موحى بها، أو بحسب حوادثها واستنادها في الكثير منها إلى عادات وتراث العرب قبل الرسالة، كان لهذا خلق حالة حالة من الثبات، فما يتم من أقوال وأفعال يأتي من خلال حُكم إلهي على يد نبي. ولكن التوتر بدأ في العلاقة بين الشريعة والقائمين عليها والسُلطة من ناحية أخرى ــ كما يُشير المؤلف ــ منذ توسع الكيان الإسلامي خارج إطار حدوده ــ لم يكن اتخذ شكل الدولة بعد ــ فالدولة كانت تجبي الضريبة وتحمي الأمن وتشرف على حكم المدينة. ومع ذلك فإن الرقابة في المدينة كانت محط تنازع الفقهاء من جهة، والأمراء من جهة أخرى. كان المحتسب يتبع لسلطة القاضي، وقد أنيطت به مهمة مراقبة الأسواق تبعاً للعمل بالمعروف والنهي عن المنكر، أي العمل والأخلاق، أما ولي الشرطة فيتبع الأمير أي الحاكم ويراقب الأمن والأسوار، هذه الازدواجية كانت آخذة في البروز منذ بداية تكون أجهزة الدولة الإسلامية في القرن الأول الهجري.
وقد تنازع الرقابة على المدينة صاحب الشرطة والمحتسب كما يقول المؤلف: «إن تداخلاً مُحتملاً وقع بين عمل الشرطة من جهة، وبين وظائف غيرهم من أصحاب الولايات من جهة أخرى، وبشكل خاص مع الأمراء والحكام والقضاة، فكانوا ينفذون أوامرهم، إلا أنهم يقاسمونهم الصلاحيات أحياناً».
هذه الازدواجية في بداية تكوّن أجهزة الدولة الإسلامية أدت إلى ظهور سلطتين دينية وسياسية. وقد بقيت المدينة تمثل فضاء تشريعياً خاضعاً لسلطة الفقهاء في الميراث وحياة العمل في الأسواق، وتنظيم مسائل العمران وشؤون الجماعات الدينية، في حين أخذت الدولة تطور أجهزتها باعتمادها على كتابها الإداريين ذوي الأصول الفارسية الذين صاغوا دواوينها ومؤسساتها.
الخسيس والنفيس
يُشير العنوان إلى تقسيم الفئات داخل المدينة الإسلامية إلى فئات «خسيسة وأخرى نفيسة» وهي مُسميات توضح ما كانت تحياه هذه الأفكار من تمايز طبقي حاد، رغم أنها تدير شؤونها وفق منصة خطاب ديني اعتمد المساواة بين الناس، جاعلاً شرط التقوى هو الفيصل! ففي المدينة الإسلامية هناك «مجموعات من الأفراد تشكل بدورها عدة فئات، نُظر إليها نظرة احتقار، واعتُبر أفرادها على جانب من الخِسة والوضاعة والرذالة، وهم: أصحاب المهن الوضيعة – المتكسبون والمتسولون – أهل البلايا والعاهات». أما الفئات النفيسة، التي تحتل موقعاً مميزاً في المدينة الإسلامية، فهي الفئات التي تضم .. رجال السلطة، رجال الدين، التجار. الأمر الذي يدعو إلى الاستغراب، حيث طيلة هذه القرون لم يتخلخل هذا المفهوم في المجتعات العربية إلا ظاهرياً فقط. فمنشأ الكيان ذي الصبغة الإسلامية كان يضم جميع هؤلاء بين أفراده من النخبة، سواء عند تأسيس المدينة المنورة على سبيل المثال، أو بعد ذلك في ما يُسمى مجلس شورى المسلمين. الأمر إذاً لم يختلف عن مجتمع كان يُطلق عليه «جاهلياً» ولم تشفع آيات العدل والمساواة، وأحاديث من قبيل المشط متساوي الأسنان.
المدينة الحديثة ومأزق سُلطة الفقهاء
يُشير الكاتب إلى أن المدينة التقليدية واجهت التحدي الذي مثله قيام مؤسسات وهيئات تمثيلية مثل مجالس الإدارة والبلديات ونشوء النقابات التي ترتبط جميعها بالقانون الذي تجسده الدولة، ولم تعد الدولة ممثلة في السلطان أو العاهل أو الوالي، ولكنها أصبحت مفهوما مجردا تفرض القوانين على الذين اكتسبوا صفة المواطنين بعد أن ارتسمت معالم الدول جغرافيا. وتماهى الوطن في الدولة كما تماهى الفرد في الوطن الذي هو مثال أو فكرة تتجاوز الجماعات والطوائف والعشائر والأثنيات وبذلك انتصرت الدولة على المدينة. وحيث انتقال أنماط العمران والتجارة والفنون، نشأ في كل مدينة وسط حديث، فإذا كان الوسط التقليدي للمدينة يتمثل في المسجد الجامع والسوق، فإن الوسط الحديث تتوسطه السرايا الحكومي أو البلدي رمز السلطة الحديثة، إضافة إلى المباني الحديثة والمقاهي والمسارح، وإزاء الحارات الداخلية نشأت الشوارع والمباني المستقلة والوكالات والمصارف والصحف ومكاتب المحاماة وعيادات الأطباء، وكذلك رموز القانون والعلم الحديث. من ناحية أخرى المؤسسة الفقهية التقليدية التي لم تواكب هذه التطورات، التي أفقدتها جل صلاحياتها ونفوذها، احتفظت بإمساكها بالأحوال الشخصية لأبناء المدينة في الميراث والزواج والطلاق أو في إقامة الشعائر. وقد احتفظت المدينة القديمة بالرموز الدينية التي تعبر عن ذاتها في أيام الجمعة والمناسبات الدينية.
النموذج الغربي ومحاولات الردة
ويوضح المؤلف أن المجتمعات الإسلامية في بلاد الإسلام قطعت شوطاً بعيداً في تبني الحداثة، ليس بفضل القوانين إنما بسبب جاذبية النموذج الغربي وتفوقه في مجالات الخدمات، فضلا عن تأثير الأفكار التي أصبحت سمة العصر في النصف الثاني في القرن التاسع عشر، والتي أضحت تتجلى في الآداب والفنون، فانزوت المدينة التقليدية، ليس كحيز مكاني فحسب، ولكن كنمط وطريقة للعيش. يبدو هنا أن أفكار تنظيم الدولة من دواوين وإدارات وما شابه كانت دائماً مستوردة، فلم يكن العقل العربي يعي هذه الأشياء، لا توجد كلمة دولة في خيال العربي، وقد بدأ هذا الاستيراد من بلاد فارس/إيران، وحتى الدول الغربية كما يقول المؤلف.
وما كان من التحديث الأخير إلا وأن خلق حالة تشبه الزلزال للتقاليد الفقهية والمؤسسات الدينية، والتي لم تجد ضالتها إلا من خلال تحوّل الموروث الديني والفقهي من خلال حركات إصلاحية وأصولية، تريد أن تحيي السلف، وإخضاع الأفراد والمجتمع للشروط التي وضعها الفقهاء لتنظيم أحواله ومراقبته «إذا كانت الدولة الحديثة هي التي تجاوزت المدينة وألحقتها بقوانينها، فإن حركات الإسلام المعاصر ترفع شعار الدولة الإسلامية. وهو مفهوم حديث نتج عن كون الصراع هو شكل النظام السياسي الذي تحتضنه الدولة». الأمر أشبه بمحاولة استعادة السُلطة عن طريق التحايل، ذلك باستخدام مفردات سياسية واجتماعية مستحدثة، هذه الحداثة فقط من خلال المُسميات، دون المعنى. فلا يؤمن الأصوليون بفكرة الديمقراطية، ويتحايلون بمجلس شورى المسلمين، فالأساس لفئة بعينها، كانت في ما مضى لرسول وأصحابه، والآن أصبحت تدور بين فقيه وصفوته.
النظام الإسلامي في شكله الجديد
ويخلص المؤلف في الختام إلى أن النظام الإسلامي الذي تقترحه الحركات الإسلامية يدل على فهم خاطئ تماماً لفكرة الدولة، فهو نظام يقوم على (مبدأ الحِسبة) بالرغم من أن المحتسب لم يكن يملك أي صلاحيات في إقامة الحدود، إلا أن الحسبة حسب الإسلاميين تصبح النظام الوحيد الذي تملكه الدولة، وهو نظام يقوم على النفي، نفي كل ما قدمته الحداثة من أفكار وتراكم في الخبرات والعادات. النفي لكل ما هو مختلف، رأياً وفكراً واعتقادا.
المُعضلة
لا يريد الأصوليون ــ ينطبق هذا اللفظ على أصولييّ الأديان عموماً ــ الاعتراف بدورات التاريخ، وأن الدول والحضارات تبدأ وتنتهي لتحل محلها حضارات أخرى. فلا حلم لخلافة سيعود، ولا التفوق والتمايز لدين أو جنس سيعود مرّة أخرى. وقد استنفدت الحضارة الإسلامية طاقتها ــ اعتمدت هذه الحضارة على أبناء البلاد التي تم غزوها تحت راية الإسلام ــ من ناحية أخرى لابد من مواجهة حقيقة التعالي الزائف بالانتماء لديانة معينة ــ الانطلاق وتفسير الوجود والعالم من خلال النظرة الدينية ــ وهي المعضلة الأهم التي تضرب جميع الأديان الإبراهيمية، فما السبيل أمام شعب الله المختار، وأبناء الله، وخير أمة أخرجَت للناس؟!
خالد زيادة: «الخسيس والنفيس… الرقابة والفساد في المدينة الإسلامية»
الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 2015
140 صفحة
محمد عبد الرحيم