خالد زيادة في مؤلفه «لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب»… أزمة الشعور بالمؤامرة وضرورة تجاوز الأيديولوجيا
[wpcc-script type=”9ec341c582a9f49c0853a937-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: كان للثورات الشعبية العربية ــ رغم تباين نتائجها ــ الأثر الأكبر في إعادة النظر إلى الأفكار الكُبرى التي حرّكت وفعّلت الحركات السابقة التي عرفها العرب منذ مطلع القرن العشرين، كالحرية والوطنية والاستقلال. هذه الأفكار التي انتهجت أساليب الفكر الغربي أو الإنتاج الحضاري الغربي الثوري في الأساس. وربما التعثرات التي واجهتها ثورات القرن الجديد يعود إلى الاستناد لهذه الأفكار، التي كان لابد من تطورها، وهو ما ساعد على ظهور تفعيل الفكر الأصولي، بعدما استنفدت أوروبا وأفكارها تأثيرها في الشعوب العربية، هذا الإفلاس الآني هو ما يحاول الكاتب خالد زيادة السفير اللبناني في مصر ولدى جامعة الدول العربية استعراضه في كتابه «لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب»، الذي يشمل 8 فصول، تبدأ من حالة الجوار مع الغرب وصولاً إلى صعود التيار الأصولي، الذي بحث في جهة أخرى، وأحل محل الفراغ الفكري والسياسي.
صدر الكتاب في نسخة جديدة ضمن مشروع مكتبة الأسرة، سلسلة العلوم الاجتماعية، في 207 صفحات من القطع المتوسط.
موجات الربيع العربي
يلفت المؤلف في تصديره للكتاب إلى أن الموجات الثورية التي بدأت في ما يُسمى بالربيع العربي، لم يزل أمامها الكثير، وقد تمتد وتتكرر حتى تستقر الأمور، وهو ما يُشبه ما كانت تمور به الساحة العربية في بداية ومنتصف القرن الفائت، مع الأخذ في الاعتبار تغير طبيعة ومناخ الظروف السياسية المحيطة. ويرى أن ما يجري في العالم العربي هو نتيجة مباشرة لانقطاع مسار التحديث، والإخفاق في إنتاج خطاب عقلاني معاصر يتصدى للأنظمة الأحادية وموبقاتها، التي وجدت ضالتها في إعلان إسرائيل كدولة، فأصبح ذلك ذريعة للعسكريين بأن ينقضوا على السُلطة، فتكونت نظم حُكم مطلقة، ألغت النزعات التعددية والمؤسسات التمثيلية، التي كانت متعثرة في تجاربها.
ويُشير المؤلف إلى العلاقة الأساسية مع الغرب، التي أصبحت مصدراً للقلق الذي طبع الأفكار، منذ أن أصبحت أوروبا مركز الحداثة في العالم، فكل ما شهده العالم العربي من تطورات منذ بداية القرن التاسع عشر، يُعد نتيجة لهذه العلاقة المتوترة، سواء على المستوى السياسي أو التقني.
الجوار
خلال هذا الفصل يرى المؤلف أن التفكير العربي الإسلامي لم يزل إلى اليوم أسير العلاقة مع الغرب، وما الإنتاج الثقافي العربي في أغلبه إلا ترجمة لهذه الإشكالية، في ضرورة تعيين الذات من خلال الآخر، خاصة أن هذا الآخر أصبح متفوقاً ومنتصراً، كما في الحقبة الاستعمارية، التي لم تزل تتمثل في الصراع بين الشرق والغرب. وبالعودة إلى التاريخ وجذور هذه العلاقة الممتدة إلى قرون عدة نجد أن التهديد الإسلامي الأندلسي أيقظ الهوية الأوروبية وربطها بالمسيحية، فالخوف من الإسلام أبرز نزعات التشدد لدى الأوروبيين، وأحيا لديهم الاعتبارات المرتبطة بالإيمان المسيحي. هي لعبة القوة إذن وفرض سُلطة، وما الأمر الآن إلا انقلاب الحال، فالظروف متشابهة إلى حدٍ كبير. والآن بعدما كان التهديد الإسلامي لأوروبا يأتي من الحدود، أصبح يأتي من داخل المدن والقرى من أقصى الشمال في السويد، حتى إسبانيا وفرنسا والمملكة المتحدة. وبينما تخاف أوروبا هؤلاء وتحيل إليهم ضعفها، تحيل بدورها التيارات القومية والإسلامية ضعف العرب والمسلمين إلى المؤامرة الغربية.
النهضة
لم تقتصر النهضة على الجانب الفكري فقط، بل امتدت لتتحقق على أرض الواقع، فإذا تعلق الأمر بالأفكار فثمة دمج بين محاولات الرواد، مثل .. بطرس البستاني والطهطاوي، إضافة إلى الإصلاحيين من الإسلاميين كمحمد عبده ورشيد رضا، وصولاً إلى الليبراليين والعلمانيين كفرح أنطون وشبلي شميل، حتى نصل إلى نهاية الحرب العالمية الأولى. ثم الجيل الثاني، المتمثل في سلامة موسى وطه حسين، فنصل إلى الحرب العالمية الثانية وما بعدها. وعلى أرض الواقع ــ بعض النظر عن النتائج ــ جاءت الثورة العربية 1916، والثورة المصرية 1919. كل ذلك نتاج المؤثرات الأوروبية الفكرية والتقنية، وتأثير السياسات الأوروبية في نهوض الوطنيات. فهؤلاء المفكرون كانوا أكثر تأثراً بالأفكار الأوروبية العائدة لعصر التنوير، التي نشرتها الثورة الفرنسية، وتطبيقها من خلال عدة رؤى .. كالتمدن، التربية، الوطنية، التاريخ، والحرية، والأخيرة كانت النواة بالمناداة بوضع دستور يحد من سلطة الحاكم المطلقة. والسؤال في تلك الفترة كان .. كيف نأخذ عن أوروبا تقدمها، وأصبح في ثمانينيات القرن التاسع عشر مع الإصلاحية الإسلامية.. لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟
الإصلاحية الإسلامية
نظراً لهذا التساؤل الفارق، والناتج عن حقبة النهضة التي خلّفت قطيعتين، أولاهما المناداة بالدستور وتعليقه من جانب السلطان عبد الحميد الثاني، وانتهج سياسة حصر السلطة في شخصه كخليفة للمسلمين، والمناداة بالجامعة الإسلامية في مواجهة التحديات الأوروبية. وثانيتهما هي التدخل الأوروبي الفعلي في العالم العربي والإسلامي، كديون مصر واحتلالها من قِبل إنكلترا، وتونس من قِبل فرنسا. وأصبح ينحصر مفهوم الأمة الإسلامية في مقابل العالم الإسلامي المترامي الأطراف. فها هو جمال الدين الأفغاني الإيراني الأصل، والقادم من الهند، يصل ليُبشر في اسطنبول والقاهرة بوحدة المسلمين في مواجهة الغزو الصليبي. وتوافق ذلك مع عبد الحميد الثاني، الذي استخدم الجامعة الإسلامية استخداماً سياسياً في العصر الحديث. ويأتي محمد عبده ليرى أن سبب التخلف يكمن في احتلال العنصر الأجنبي للعرب كالفرس والترك، إضافة إلى الابتعاد عن الدين، وهو التفسير الذي أخذت به الحركات الإسلامية في ما بعد. ويبدو تساؤل محمد عبده ــ الانتقائي ــ أن أوروبا جاءت نهضتها عندما ابتعدت عن الكنيسة، بل وعن المسيحية، بينما نهضة المسلمين تكمن في العودة إلى تعاليم القرآن، لأن الدين الإسلامي يتفوق على المسيحية، وصالح لكل العصور، إلا أن ما ميز فكره ــ رغم الأسس الواهية ــ هو إعمال العقل في العقيدة، وهو أمر لم يكن وقتها يمكن مناقشته. ويأتي رشيد رضا الذي بدأ إصلاحياً وانتهى بمعاركه مع علي عبد الرازق وطه حسين، بسبب كتابي «الإسلام وأصول الحُكم» و»الشعر الجاهلي»، وانتهى الرجل قريباً من العربية السعودية، ومُسانداً لحسن البنا في تأسيس جماعة الإخوان المسلمين. وبالتالي لم تستطع الحركة الإصلاحية أن تنشئ جواباً متصلاً على التحديات الأوروبية في المجال الفكري والعلمي، لكنها حاولت أن تواجه المذاهب والبدع داخل الإسلام. فهي في الأخير حركات متهافتة، جاءت كرد فعل لتفوق أوروبي، ونظرة متعالية بالأساس تستند إلى موقف ديني.
الأيديولوجيا
بنهاية الحرب العالمية الأولى انهارت امبراطوريات فوق قومية، الإمبراطورية النمساوية، القيصرية الروسية، والسلطنة العثمانية. وكان لنجاح الثورة الروسية أبلغ الأثر في تكوين أحزاب شيوعية عربية تعتنق أيديولوجيات صارمة، تختلف عن الأحزاب الوطنية في عشرينيات القرن الفائت، والتي كانت أقرب إلى النوادي السياسية. إلا أن هذه الأحزاب الشيوعية العربية تعرضت لأول انتكاسة لها بعد تقسيم فلسطين، واعتراف الاتحاد السوفييتي بإسرائيل. وترافق ذلك مع ظهور التيارات القومية العربية، كحزب البعث، وحركة القوميين العرب، وصعود الناصرية. وصولاً إلى انحسار تأثيرها الأيديولوجي، قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، ووقوفها ضد الرأسمالية الغربية والإمبريالية، ما جعلها تتخالف مع أعداء سابقين، كالقوميين العرب والإسلاميين! على العكس من القومية العربية، التي حققت إنجاز الوصول إلى السلطة وفرضت أيديولوجيتها لوقت طويل، خاصة وقد تم دمج تاريخ القومية بالعروبة، وأصبحت تنادي بشعارات الوحدة والتحرر من الاستعمار. ولكن الخطاب القومي العربي البعثي والناصري، المستند إلى حدٍ ما إلى الاتحاد السوفييتي، قد استدخل بُعداً دينياً، يرى في الغرب صليبية مُتجددة. ولكن عداء الشيوعية للغرب هو في الأساس سياسياً، ينصب على أنظمة الرأسمالية، من دون أن يكون عداءً لقيم الغرب الفكرية، وهي النظرة المختلفة تماماً في الشرق، ودليل ذلك ما استشفه جاك بيرك في كتابه «العرب تاريخ ومستقبل» الصادر عام 1960، إذ يقول: «وعلى الرغم من أن بعض المواقف الدينية لن تجد التعبير الصريح عنها، وبات بعض المثقفين لا يرضون عنها، إلا أنها مازالت حيّة إلى حدٍ كبير، ومن المُحتمل أن تعود إلى الانتعاش من جرّاء ضغط الجماهير غير المثقفة، وضغط العناصر المتطرفة، أو نتيجة الفورانات العاطفية.. ويبدو أولاً وأخيراً أن الاتجاه القومي العربي لا يقف مُعارضاً للسيطرة الأجنبية وحدها، وإنما يقف أيضاً موقف التعارض من قيمها».
الدولة
لم تتم مسيرة التحديث إلا من خلال الحاكم وإرادته، واستهدفت مؤسسات الدولة، التي على رأسها الجيش، لتبدو الأدوار التي ستلعبها المؤسسة العسكرية لاحقاً ــ وحتى لحظتنا الراهنة ــ كما أن بعض سمات التحديث كانت بضغوط وشروط الدول الأوروبية، كإعلان خط (كولخانة) 1839، الذي نص على المساواة بين الرعايا، بغض النظر عن انتمائهم الديني. وتسارعت وتيرة التحديث في ظل الحماية والانتداب والوصاية، مع بروز الدول الوطنية، وإعلان استقلالها وترسيم حدودها. إلا أن مظاهر التحديث لا تحجب الأسس التقليدية للدولة، وما فعله أتاتورك في تركيا لم يمنع تنامي الحركات الدينية المناهضة، كما أن بورقيبة لم يعر بناء المؤسسات الديمقراطية أي عناية. فالاستعمار يترك للسلطة الوطنية بعد الاستقلال أن تتصارع على التركة، مستعينة في ذلك بالقوى التقليدية والتراث المحلي. ومن ناحية أخرى نجد نجاح الأنظمة الأحادية في تصوير الأنظمة التي أسقطتها بأنها تمثل الرجعية والارتهان للمستعمر، وأصبح النموذج الناصري، المتمثل في إلغاء التعددية الحزبية لصالح الحزب الواحد، هو النموذج الأمثل للانقلابيين العرب. كل ذلك أدى إلى إعادة المجتمعات إلى مراحل سابقة لقيام دولة تحتكم إلى الدستور، وتقودها نخب مدنية متمثلة في بالأحزاب والنقابات والجمعيات.
اللحظة الراهنة
يربط الكاتب في النهاية ما بين أنظمة الحكم الأحادية وحُكام المماليك في القرن الثامن عشر، من حيث كونها عصبة أو جماعة تتسلط عن طريق امتلاكها أدوات القمع وأجهزة الأمن، كما أنها تعلو فوق كل مُحاسبة. وما الربيع العربي الذي قام في هذه الدول إلا كاشف لزيف مقولاتها وأيديولوجياتها كمبرر لاستمرارها. كما سقطت عدة وجوه وأدوار أخرى، كالاحزاب الهشة، والمثقف عديم الدور، والمؤسسات الثقافية الشكلية دون المضمون. ويرى أن المعيار لولادة فكر عربي جديد يكمن في تجاوز الأيديولوجيات المُعادية للغرب، والتخلي عن نظريات المؤامرة على العرب والمسلمين، وخلق جيل مثقف، يتمتع بالاستقلال بالرأي، وموازنة المصالح. إلا أن ذلك يتطلب وقتاً وزمناً يستوعب هذه التحولات.
محمد عبد الرحيم