دايان سينجرمان وبول عمار في كتاب «القاهرة مدينة عالمية»: مدينة التناقضات وشاهدة التحولات
[wpcc-script type=”5e15ff548406e276c8647284-text/javascript”]
«وأخبرتني خطيبة أحمد، والتي تغطي رأسها بوشاح وهي مُبتهجة بأن الحجاب هو ببساطة أمر إلزامي بالنسبة للمسلمة. ولكن ذلك لا يعني أن يختلف نمط حياتها عن نظيراتها اللواتي لا يرتدين الحجاب. ولفتت نظري في ما بعد إلى أغنية فيديو كليب تقوم بالتركيز على ثلاث سيقان عارية وطويلة لثلاث فتيات يرتدين ملابس مثيرة جنسياً، يرقصن بطريقة مُغرية من أجل إسعاد مُشاهديهن. وقالت: هذه أغنيتي المُفضلة». هذه الفقرة ذات دلالة كبيرة على مدينة التناقضات، المدينة العجوز، التي شهدت كل التحولات التي مرّ بها المواطن المصري، من مجتمع ملكي، إلى انقلاب عسكري، إلى أرهاصات الثورة. وعبر تسعة عشر فصلاً وخاتمة، وفي 975 صفحة من القطع الكبير تتناول مجموعة من باحثي علم الاجتماع حال مدينة القاهرة، في سفر بعنوان «القاهرة مدينة عالمية .. عن السياسة والثقافة والمجال العمراني/شرق أوسط جديد في ظل العولمة». الكتاب الصادر بالإنكليزية عام 2005، والذي ترجم أخيرا عن المركز القومي للترجمة، التابع للمجلس الأعلى للثقافة في نهاية العام الماضي. حرر الكتاب، دايان سينجرمان وبول عمار، وترجمه وقدمه يعقوب عبد الرحمن. وسنحاول تقديم أهم ملامح هذا العمل اللافت والهام.
«كانت خيالات الهموم قد بدأت تلازمه، بينما كان يتطلع من نوافذ الطابق الحادي عشر في مركز التجارة العالمي، الذي يتجلى بطول الكورنيش الموازي لنهر النيل. إن صفقة شراء شقة سكنية قد ضاعت منه، وظل الشعار الذي يلازمه هو أن (كل شيء محفوف بالمخاطر). لكن كل مشاعر القلق تلك تلاشت وهو داخل سيارته، حينما انطلق بها من وسط المدينة، وعبر منطقة الأهرامات، مُيمماً شطر الصحراء، حتى وصل إلى بوابات تجمّعه السكني الجديد/دريم لاند. وغالباً ما يمر على أبو محمد العامل الذي يصاحبه لجمع كات الغولف، والذي أنهى عمله وفي انتظار السيارة الميكروباص التي ستقله إلى شقته، وفي صحبته العديد من العمال الآخرين». ص 114 ــ ص 115.
هذه المقارنة تكشف الأبعاد الجديدة للقاهرة، والتي تتسم بهروب النخبة الحضرية، كشكل حاد من أشكال الإقصاء الاجتماعي، خاصة وقد أعلن مبارك المخلوع في ايار/مايو عام 1997 على الهواء مباشرة في حفل افتتاح مضمار للغولف بأنه يراه رئة خضراء جديدة لأهل القاهرة، أي انه أعطى شرعية لمشروع خاص جداً، يقتصر على فئة قليلة وكأنه احد المشروعات القومية الكبرى.
فأصبحت القاهرة من منظور هذه النخبة تمثل مجموعة من المضايقات غير المحتملة، والتي لا بد من الفرار منها لحماية النفس ــ شيء أشبه بالفصل العنصري في جوهانسبرغ ــ هذه الأساطير التي يتم تسخيرها من أجل السيطرة على الأوضاع الحالية، أساطير الإعلام والصحافة، وقد انتقل لفظ العشوائية من المكان إلى المواطن، وهو المنحرف، الخارج عن القانون، المتطرف، مثير الشغب، وهكذا من أسماء وصفات ليست بحسنى.
في هذا الفصل يتم التعرّض لمكانة القاهرة الثقافية، هذه المكانة التي يبدو تراجعها الآن إلى حدٍ كبير ــ عصر الفضائيات ساعد على ذلك ــ إلا أن القاهرة لم تزل تحتفظ بملمح قديم، تحمله الذاكرة. فالقاهرة التي كانت عاصمة ثقافية وسياسية بل ودينية في فترة الستينيات والسبعينيات لعرب الشرق الأوسط، وأنتجت أفلاماً وأعمالاً أدبية صاغت وأعادت تشكيل الهوية للعالم العربي. إلا أن هذه المكانة لم تكن كما كانت اليوم، ما بين بيروت وإنتاجها الثقافي بعد الحرب، وبين دول الخليج وفرض رؤيتها الثقافية على الإنتاج عموماً، يعضده ما تمتلكه من أموال طائلة. ويعود هذا التدهور إلى سببين: فلم تعد مصر تقدم القيادة الحكيمة للأمة العربية، لا سياسياً ولا دبلوماسياً ولا عسكرياً، ولا حتى في مجال الرموز والأحلام التحررية. تحمل القاهرة الآن فقرها وتدهورها، وحياة سياسية تابعة ومُفكَكَة. وتبعاً لذلك وهو الأمر الآخر خلق آفة المؤامرة لتبرير ابتعاد القاهرة عن الهيمنة على الثقافية العربية.
وتعتبر السينما المصرية من أهم أدوات الهيمنة الثقافية في الماضي والحاضر، إلا أن الأموال السعودية أخذت تطارد أصول الأفلام المصرية، مع إنشاء قنوات متخصصة لعرض الأفلام، وزاد التنافس بين هذه الشركات، بينما ظل المصريون مكتوفي الأيدي، ولا يملكون سوى الحسرة.
أما الغناء، فحدث ولا حرج فبعد عصر أم كلثوم وعبد الحليم وصلنا إلى الفيديو كليب الفاضح. الأمر هنا يرتبط بسياسات الاستهلاك والموضة، إضافة إلى أن الأغاني الشعبية أصبحت ترتبط بنخبة هذا العصر. حتى الفيديو كليب أصبح لبنانياً بامتياز وقد اكتسب شعبية كبيرة في العالم العربي. الحال نفسه لا يختلف عن المسرح، والذي وإن كان يمثل نهضة ــ شكلية ــ في الستينيات، إلا أنه الآن أصبح أقرب لعروض الكباريه، وفي خدمة الفئات المتوسطة من جمهور الخليج العربي، خاصة في فصل الصيف. فالسائح الخليجي لا يأتي القاهرة لزيارة الأهرامات أو المتحف المصري، بل يكتفي فقط بشارع الهرم. فأزمة المسرح هي أزمة القطاع الخاص، وأزمة جمهور يتنفس السطحية.
كما ان السيطرة الآن ليست هي المعيار، لكنه الكيف النوعي والجرأة. ويخلص كاتب البحث إلى أن الأمل الآن في المراكز والكيانات الثقافية المستقلة، والتي للأسف تقف لها الدولة بالمرصاد.
«يعتبر المركز التجاري أكثر نظافة بكثير من الشارع … والعميل في المركز أكثر رقياً عن رجل الشارع العادي/مدير محل في العقاد مول.المركز التجاري تحت السيطرة … ولكن الشارع لا/صاحب محل في العقاد مول».
مع تلاشي احتمالات النزاعات العسكرية، تحوّل الكثيرون من الضباط المتقاعدين إلى رجال أعمال، خاصة وقد تضخم دورهم في الحياة المدنية والثقافية والقطاع العام، بعد انقلاب تموز/يوليو 1952. ويذكر الباحث أن «مركز العقاد مول» في مدينة نصر، يعتبر مثالاً حياً على كيفية تحوّل العسكر إلى الحياة المدنية، وقد تم تشييده عن طريق «جمعية ضباط الحرس الجمهوري» ــ نخبة من مجموعة الضباط المناط بهم حماية رئيس الجمهورية ــ والتي قامت ببيعه مؤخراً إلى مجموعة من الأفراد. إضافة إلى ذلك قام العديد من الضباط المتقاعدين بإنشاء شركات أمن خاصة، والكثير من المراكز التجارية تقوم بتوظيفهم، وشركات الأمن هذه تعد ظاهرة أمريكية تبنتها مصر في عهد المخلوع. وفي هذا المكان خاصة مدينة نصر، تتبدى عقلية العسكر في عمارات شاهقة وبيوت الأسمنت، والشوارع الطويلة، فالمدينة لا قلب لها ولا مركز. ثقافة المول التي أتت من الولايات المتحدة عبر دول الخليج، ليبدو جمهورها من العاملين أكثر في هذه الدول، حيث تم فرض النمط الخليجي/السعودي خاصة على هؤلاء، الذين قاموا طواعية بتصديره والحفاظ عليه، وكأنهم يخلقون لأنفسهم فئة ومكانة اجتماعية أخرى، تبتعد عن قصد عن الشكل العام للقاهرة. ولا يستثني البعض هذه المراكز من عمليات غسيل الأموال المُدبّرة، فكانت فرصة للحصول على قروض مصرفية، وتهريبها إلى الخارج. وهذا ما يفسر انتشار هذه المراكز بصورة كبيرة. ويتساءل الباحث في النهاية. كيف يمكن لهذه المشروعات بالغة الضخامة أن تستمر على قيد الحياة، في ظِل هذه المعدلات المخيفة من الكساد؟!
وأخيرا يتناول الكتاب موضوعات ووجهات نظر هامة في حياة القاهرة والمصريين، خاصة وقد أوحى إلى ضرورة تغيير هذا النظام وقت تأليف الكتاب ــ عام 2005 . يتعرض الكتاب أيضاً إلى مباني القاهرة الأثرية، وشارع من أهم شوارعها الخاص بالفن «شارع محمد علي» وتحولاته ومصائر فنانيه. كذلك الموالد الشعبية وأثرها على المواطن المصري، وروادها من الفئة فوق المتوسطة، أو الموسومة بالمثقفة، إضافة إلى مناقشة الوضعية الخاصة لبعض الفئات، خاصة النوبيين، من حيث وجودهم ووظائفهم، والنظرة إليهم، والتي تزداد تعقيداً مع مرور الأيام، خاصة في ظِل الحس الطائفي والعنصري الذي أصبح يحياه المصريون.
دايان سينجرمان وبول عمار:
«القاهرة مدينة عالمية».
ترجمة وتقديم يعقوب عبد الرحمن، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2015
975 صفحة
محمد عبد الرحيم