«دوامة الرحيل» لناصرة السعدون: صورة حياة العراقي بعد عشر سنوات من التهجير
[wpcc-script type=”ac7854ba350841bd1df257f2-text/javascript”]
تؤمن الكاتبة العراقية ناصرة السعدون بأنَّ النصَّ خطابٌ يعبِّر عن واقعٍ ثقافيٍّ وحضاريٍّ، ويرمي إلى إحداثَ تغيير في العقليّة والمواقف والتوجّهات. ولهذا تتجاوب تجربتها الروائية مع الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ العربيّ، في أزماته وتحولاته الفكريّة الحادّة. فتعرض في روايتها الخامسة «دوامة الرحيل» شخصيّات اختارتها بعناية من بين المضطهدين والمقهورين، ووضعتها في مواقف سرديّة ملتهبة متفجّرة، وراحت تطوّر أحداثها بحنكة ومهارة وصبر فائق.
تُعدّ رواية «دوامة الرحيل» الصادرة في طبعتها الثانية عام 2014 عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» من الروايات التي وثّقت بعض مراحل الحرب على العراق وتداعياتها، لكنها في الوقت ذاته ابتعدت عن خصائص الرواية التاريخية، وجعلت من العلاقة الاجتماعية الإنسانية بنيتها الأساسية في أحداثها التي ربطت بين الاجتماعي والسياسي، وقد حاولت الكاتبة مقاربة كثير من صراعات الماضي التي لازالت تلقي ظلالها حتى اليوم على واقع الحياة السياسية والاجتماعية في العراق، وإشكاليات بناء الدولة الفلسطينية الحديثة.
تتناول «دوامة الرحيل» الفائزة بجائزة «كتارا» للرواية العربية المطبوعة عام 2015، أزمات المواطن العراقي بعد ما حلّ بالبلاد من دمار, فتحيل تجربة السعدون السردية إلى مرجعيات واقعية، تغتني بأدوات تعريف ذات وشائج حسّية عميقة بالمكان وظلاله في الروح، وأيضاً ذات وشائج لا تقل عنها عمقاً برؤى المخيلة ومغامراتها وانفتاحها اللامحدود على الأسئلة، حيث بُنيت بتلقائية على فكرة البحث عن قيمة ووجود لذات «إباء قيس السالم» بطلة الرواية، التي انتخبتها الكاتبة لتسرد من خلالها ذكرياتها أحياناً، وفي أحايين أخرى تُقصيها وتستأثر الكاتبة بالسرد مباشرة، ليكون أقرب ما يكون لما تريده للبوح عن ذاتها.
الحرب والتهجير:
تقول الروائية ناصرة السعدون عن روايتها الأخيرة: «بعد مغادرتي العراق هجرت الكتابة وانشغلت بالترجمة، إلاّ أن أحداث رواية «دوامة الرحيل» بقيت هاجسا يطاردني حتى قرّرت أن أكتبها، وأنهيت المسودة الأولى في ثمانية أشهر ومن ثم أعدت تنقيحها وطباعتها».
تبدأ السعدون روايتها بمشهد مغادرة بغداد, ذلك المشهد القابع في ذاكرة كل مهاجر وهو يصحو فجراً والمرارة في حلقه بأنه لن يرى بغداده ثانية. ترافق الكاتبة عينا المُهاجر المسمّرة على شواخص الشوارع, حتى طريق عمّان وحجارته النيزكية السوداء «منطقة الصفاوي» التي أخذت «إباء» بعضها كتذكار. يفتح هذا المُستهل لماضي العائلة باباً, اعتُقِلَ الأب وهو يُدافع عن المصنع الذي يعمل فيه، ثمّ توفيّ في سجن «أبو غريب», ابنه «بارق» اختطف وسُلّم جثمانه لعائلته مقابل مبلغ مالي كبير، دفعته ظناً منها أنّها تنقذ حياة الشاب. بتفاصيل مثقلة بحزن عراقي جسّدت الكاتبة هذه الأحداث المُفجعة واحداً تلو الآخر, لنغدو كقرّاء مُعايشين كما بطلتيه «إباء» ووالدتها المشلولة لذلك الواقع المرير الذي اضطرّها إلى الرحيل بوالدتها المريضة للعلاج في الأردن, ومنها تنتقل بمساعدة الأمم المتحدة لتكون لاجئة في أمريكا.
ثيمة الرواية هي الاغتراب العراقي بكل وجعه، كما عرفته شريحة الطبقة الوسطى من مثقفين ومهندسين وأطباء وطلبة جامعيين, طبقة مُهدّدة بالاختفاء بعد أن هاجر أكثر شخوصها. فعل الهجرة المركزي في كتابة السعدون مرتبط بالمكان, وقد كتبت على غلاف الرواية الأخير»غزو العراق واحتلاله زلزل حيوات الكثير من أهله، ويمكن كتابة الكثير من الروايات عمّا جرى بعد الاحتلال، من بينها حياة «إباء السالم» بطلة الرواية، هي بعض من وجع العراق وخساراته. وبعض خساراته، الاقتلاع القسري من الأرض والبيت والأهل، وإعادة الزرع في أراض جديدة».
تبدو أحداث الرواية أشبه بفسيفساء تفاصيل صغيرة مفتتة لا رابط بينها، تطيل الساردة/ الراوية التوقف عندها ووصفها واستنطاق دلالتها بالنسبة للشخوص، تفاصيل تتناثرها العوالم الداخلية والخارجية لشخوص لا ناظم لهم سوى سيرة التشرد والضياع, حيث لا ملاذ في حيواتهم التي داهمتها الحرب ولا نقطة ارتكاز يقف عليها الكائن, وحيث الوطن ليس سوى مجرد ذكريات بعيدة وغائمة. كل هذا بلغة تلقائية، نافرة، ما أن يُطالعها المتلقي حتى تترسخ صورها في أعماقه، فتحيله من قارئ خارج النص إلى عنصر منصهر في دوامة الأحداث، ويصبح أحد شخوص «دوامة الرحيل».
علماً أن الكاتبة لم تحلّق في الوهم وتتحدث عن بطولات خارقة، بل حاولت أن تبقي روايتها في إطار الإنساني المقبول، مُقدّمةَ الذات بوصفها مرآة عاكسة، لتبلغ الرواية ذروتها في عرض مشاهد الفجيعة المزمنة التي بدأت بإفرازات الحرب الأمريكية على العراق وضخامة ويلاتها والأرواح التي أُزهقت فوق سواترها، وصولاً إلى الحالة الراهنة وفواجعها، ثم بدء صفحة الحصار المفتوح وحروب الاستنزاف المحايثة التي راح ضحيتها الشعب العراقي.
الزمان والمكان
تدور معظم أحداث الرواية في فضاء العراق خلال فترة الغزو الأمريكي، في العاصمة بغداد وضواحيها.. ما بين الأعظمية والجادرية والوزيرية ومدينة الثورة. إلا أن أمكنة أخرى كان لها حضور بارز في الرواية كالصفاوي والزرقاء وعمّان ودنفر في الولايات المتحدة ونيوزيلندا وغيرها، فضلاً عن ذكر سريع لأماكن ومناطق جغرافية عدّة دونما وَصْفٍ تفصيليّ، مُطردٍ، نظرًا للإيقاع السريع الذي ينْهضُ عليْه بناءُ النص، مما أضفى شكلاً من التماسك على الرواية.
زمن الرواية هو فترة ما بعد غزو العراق عام 2003, الذي يؤسّس لعرض مسارٍ آخر موازٍ لويلات الحرب, فرصدت الكاتبة المشهد العراقي وصراعاته الفردية والشللية، وعكست صورة سياسية ثقافية تكاد تكون مكتملة وبالغة الصدق، لمرحلة كتب عنها كثيرون، لكن حسنة «دوامة الرحيل» أنها لم تتردد في قول ما لا يُقال، لاسيما في توثيق الكاتبة لمُجريات حساسة وخطيرة مع عرض تفاصيلها بدقة مدهشة وتلقائية عالية ومفارقات مذهلة.
الشعب العراقي ليس معصوماً عن الخطأ، فهناك تجاوزات وخيانات واختراقات وفساد وقتال داخلي، يُعاني منه المجتمع العراقي بكافة أطيافه وتنظيماته كما تعاني منه الدول والأنظمة الأخرى. يمتد النقد الواعي إلى كل شيء, إلى الدكاكين الثورية وأصحابها الذين أبعدتهم تجاربهم الفاشلة خارج دوائر الاهتمام فأصبحوا مجرد كائنات فقدت جاذبيتها تقضي أيامها باجترار ما مضى، وإلى المؤسسات الأمنية المهترئة التي افتُضح أمرها وفشلت فشلاً ذريعاً، وإلى الرموز الذين حملت تجاربهم خيبات فشل كثيرة زادت يوماً بعد يوم.
أرادت ناصرة السعدون أن تكون صادقة بصورة مطلقة، فرسمت المواقف والشخصيات كما هي، ولكن بحساسية صافية وموجعة وطريفة أحياناً، أو كما حدثت تماماً. ممّا يدفعنا إلى القول بأنّها نجحت في تحييد ذاتها إزاء المتن المدوَّن، خاصّة أنّها لا تطرح نفسها بطلاً، لا في وقائع الحروب، ولا في صراعه الذاتي بالميدان الثقافي, بل اكتملت في هذه الرواية ملامح البطل الروائي الإشكالي في علاقته بالعالم والزمان والمكان في كتابة ناصرة السعدون, التي استدعت تبعاً لذلك نمطاً مختلفاً لساردٍ استبدل عيناً بأخرى وموقعاً بآخر وخطاباً بآخر مخالف.
الرسم ورواية «دوامة الرحيل»
حمل غلاف الرواية لوحة للفنانة العراقية وداد الأورفلي, حول سبب اختيار المُؤلّفة لأحد أعمال أورفلي كعنوان لشكل مُنتجها الأدبي, أجابت ناصرة السعدون: لكل رواية حكايتها وغلافها يهمني، لأنه بطاقة الدعوة للقارئ لفتح الغلاف الذي يروقه، وهو يُعبّر في الوقت نفسه عن ماهية الرواية. عادة أختار لوحة الغلاف، ثمّ يقوم المُصمّم بإضافة العنوان واسم الكاتب عليه. وقد اخترت عملاً للصديقة وداد الأورفلي كغلافٍ لرواية «دوامة الرحيل» لكون أورفلي حاضرة في الرواية ذاتها على لسان بطلتها إباء: (لدينا رسامة في العراق اسمها وداد الأورفلي، ترسم المنمنمات كما لم يرسمها أحد من قبل).أمّا لماذا هذه اللوحة بالذات, فحقيقة هي أحد أحبّ لوحاتها إلى قلبي, وأدع لك ولكل قارئ إيجاد جوابك الخاص كذلك.
من جهتها, ترسم السعدون الواقع العراقي بعيداً عن الرمزية, مقدّمة عبر «دوامة الارتحال» صورة مغايرة للصورة النمطية السائدة عن الواقع العراقي بمشكلاته وتعقيداته، تحمل مفهوماً جديداً للنقد الذاتي، حيث دعت إلى مراجعة النفس باستمرار ونقدها نقداً ذاتياً موضوعياً مستمراً. لايصال رسالة للعالم مفادها أن الحياة التي يعيشها العراقي اليوم بعد أكثر من عشر سنوات من اغترابه عن وطنه هي حياة مزرية ولا تليق بهذا الشعب العظيم.
كاتب فلسطيني
نضال القاسم