«ذاكرة القهر»… أساليب التعذيب وآثاره: الحالة المصرية نموذجاً

القاهرة ـ «القدس العربي»: «أيها المغفلون الغلابى، تظنون أنكم ستغيرون السياسة، لكن كل ما ستحصلون عليه هو استبدال أشخاص بأشخاص». سارتر «تاريخ حياة طاغية».

«ذاكرة القهر»… أساليب التعذيب وآثاره: الحالة المصرية نموذجاً

[wpcc-script type=”782f7e0321d174e511731c30-text/javascript”]

القاهرة ـ «القدس العربي»: «أيها المغفلون الغلابى، تظنون أنكم ستغيرون السياسة، لكن كل ما ستحصلون عليه هو استبدال أشخاص بأشخاص». سارتر «تاريخ حياة طاغية».
نشأت المجتمعات جنباً إلى جنب مع منظومة أو تركيبة مُحكمة من قوة تواجه بها السلطة أو النظام الحاكم كل مَن يخالفها، فتاريخ الشعوب يوازيه تاريخ من التعذيب على القدر نفسه من التطور في الوسائل والأهداف والغايات. وقد تعددت أغراض التعذيب وتطورت، فبدأت من فكرة إجبار المتهم ومرت بعملية العقاب وكذلك مفهوم التطهير، ثم أخيراً وصلت إلى الردع. والأمر في النهاية يعكس الرغبة في السيطرة على جسد الآخر وامتلاكه، كمدخل للسيطرة على عقله وأفكاره وصفاته ومعتقداته. هذا التطور جاء لتتنوع أساليب التعذيب فتقننها الدول، فأصبح فعل التعذيب اعتيادياً وصار يمارس لذاته، من دون هدف محدد. ولا يقتصر التعذيب على كونه فعلاً مباشراً، بل منظومة كاملة من القهر والعنف، فعلا مصمما ومدروسا يتخطى حيز الاستثناء. تاريخ من عدم وثوق نظام الحكم إلا في نفسه، وخلق أعداء ومواجهتهم بكل الطرق، فلا تقدم فكري أو اجتماعي غيّر من طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، خاصة في منطقتنا الموسومة بالمنطقة العربية، والموسوم نظام الحكم فيها بأنه النظام المطلق.
في دراستها اللافتة «ذاكرة القهر. دراسة حول منظومة التعذيب» تتبع الطبيبة النفسية والكاتبة بسمة عبد العزيز تاريخ وتقنيات ووسائل التعذيب، التي اخترعتها وطورتها أنظمة الحكم القمعية. فهي دراسة نفسية بالأساس للحاكم/الجلاد، مقابل آثار ما يقوم به في مواجهة المواطن/الضحية ــ الكتاب رسالة ماجستير في الأصل، وقد أضافت وعدّلت الباحثة، أعادت الصياغة كلية لتتناسب وطبيعة الكتاب ــ وتستعرض الباحثة بخلاف التحليل النفسي للفرد الفاعل (الجلاد) والمجتمع (المفعول به) الضحايا، العديد من الشهادات والتقارير والأبحاث الميدانية لحالات التعذيب والتواطؤ من بعض المؤسسات المصرية. فالحالات المصرية هنا هي التطبيق العملي والفعلي للدراسة.

الدائرة المغلقة

«أنا باطيع القائد بتاعي زي ما باطيع الرسول، ولو عصيته زي ما أكون باعصي ربنا»/ملازم أول في الجيش المصري، عند الهجوم على المعتصمين في مسجد عمر مكرم في ميدان التحرير.
تعتمد أغلب الأنظمة القمعية على إرساء وترسيخ فعل التعذيب، باعتباره جزءاً لا ينفصل من سياساتها الداخلية، فتقوم بتزكيته وتطويره وتوفير الامتيازات للمضطلعين به. فالجلاد الفرد ما هو إلا جزء من النظام، والعلاقة القائمة بين الطرفين هي علاقة تكامل ومصالح متبادلة، وإن تباينت النسبة التي يُشارك بها كل طرف، واختلف مقدار الفائدة الذي يعود عليه، والنصيب الذي يتحمله من اللوم في حال الإخفاق. فالتعذيب المُمَنهج الذي تتشابه أساليبه وتتوافر أدواته في مقرات الاحتجاز المختلفة، السري منها والمُعلن، لا يمكن عملياً ممارسته سوى بمعرفة ودعم السلطة المسؤولة، ولا يمكن تنفيذه إلا في حماية النظام.

القوة والسلطة

«نكشوا شعرنا قبل ما يصورونا علشان نبقى زي البلطجية، وجابوا ترابيزة طويلة عليها حوالي 15 سكينة وشوية سواطير وزجاجات فاضية عليها قماش، على أساس أنها مولتوف، قالوا لنا فاكرين إنكم عملتم ثورة».
«العيال دي ذنبها في رقبتكم يا بتوع الثورة… لولاكم كان زماننا مشّيناهُم… كان زمانهم في بيوتهم». ضابط في أحد السجون المصرية لأحد الضحايا عام 2014. ويأتي مصطلح «القوة» بدلاً من «السلطة» إشارة إلى ما تسعى الأنظمة القمعية إليه، عبر ممارستها عمليات التعذيب، ذلك دلالة على غياب الأهداف المشتركة ما بين الشعب وتلك الأنظمة الحاكمة، الأمر الذي يعني في حقيقته غياباً لشرعية سلطتها، ويمكن النظر إلى التعذيب في هذا السياق كوسيلة فعالة للسيطرة والهيمنة المطلقة، وللتعامل مع المعارضين الذين يمثلون معسكر الأعداء وسحقهم. لذا تعمل هذه الأنظمة جاهدة على تقنين انتهاكاتها المتواصلة للحقوق والحريات في ظِل شرعيتها الزائفة.
ويبدو خطاب النظام واحداً من حيث توجيهه للعامة كحماية مصالح الوطن العليا والحفاظ على أمن البلاد واستقرارها، هذه الحجج المزعومة تجد صداها، وتحظى للأسف بتأييد شعبي واسع النطاق، بأن يتم تغليب المصلحة العليا على مصلحة الفرد، فترتكب الجرائم وتهدر الحريات والحقوق. ويبدو أن فكرة الاستقرار هذه تجد الصدى لدى شرائح اجتماعية متناقضة، بهدف حماية مصالحهم في المقام الأول، كالفئة المتوسطة العليا والفئات العليا، أصحاب المهن الهامشية، حيث أن أي اضطراب على أرض الواقع يضر بأعمالهم ومشروعاتهم أبلغ الضرر. وفي جميع الأحوال لا يجد النظام سوى الأصوات المعارضة لتصبح كبش الفداء في هذه اللعبة. من دون أن ينسى النظام أنه والوطن شيء واحد، فالمفهومان هنا يتداخلان بشكل مرضي، من حيث المساس به ومحاولة إسقاطه، يا «هو» يا «الفوضى».

الموقف الطبي

يصف كثير من المواطنين الذين تعرضوا للعنف من قِبل الأجهزة الأمنية، عدم قدرتهم على إثبات إصاباتهم بسبب تعنت المنشأة الطبية، التي لجأوا إليها، هذا التعنت الذي يزداد في حالات المواجهات الكبرى بين المعارضين وقوات الأمن، خشية عدم التورط من ناحية، إضافة إلى العلاقات المتينة ما بين المؤسسات الطبية والجهات الأمنية من جهة أخرى. ولا يقف الأمر عند رفض إعطاء التقارير الطبية للضحايا، بل يمتد المجال إلى التلاعب في محتواها. هذا في حالة المستشفيات العامة، وهناك بعض الأطباء داخل هذه المؤسسات يقومون بفضحها، كما حدث في مستشفى عام شهير، حيث قام بعض الأطباء باتهام عدد من أمناء الشرطة بتعذيب وقتل مواطن، كما اتهموا في الوقت نفسه إدارة المستشفى بالتلاعب في التقرير، الذي صدر بأن سبب الوفاة .. هبوط حاد في الدورة الدموية. هذه العبارة التي أصبحت تثير السخرية من كثرة تكرارها، وأصبحت دالة بأن الوفاة ذات شبهة جنائية. ويُذكر أن شاباً لقي مصرعه بسبب طلق ناري في الرقبة، ونقل إلى أحد المستشفيات العسكرية، حيث خرج التقرير الطبي مؤكداً أن سبب الوفاة.. نزلة معوية حادة. ويتفاقم الأمر إذا ما اتصل بمصلحة الطب الشرعي، نظراً للعلاقة المباشرة في تعاملها مع الأجهزة الأمنية.

الجمهور

«لم أستطع النوم في الزنزانة… ظللت هكذا ثلاثة أيام، حتى خبطت رأسي في باب الزنزانة كي أقع فأنام، ثم أصبحت هذه طريقة نومي». يبدو أن تعذيب شخص أمام جمهور من شهود الواقعة أمر نفسي عصيب، لكنه الخوف في الغالب هو ما يمنع هؤلاء من مساندة الضحية، وبالتالي تتوارد المبررات النفسية، بأن يقنعوا أنفسهم باستحقاق الضحية هذا المصير، لأنه من المؤكد قد أقدم على فعل قاده إلى ذلك، وأن هذا الفعل هو اختياره الشخصي. وحين يتكرر الحدث تكون الاستجابة أقل حدة، ولا تصبح هناك حاجة لافتعال المبررات، ويتناقص الشعور بالذنب حتى يتلاشى تماماً. ويبدو أن الوضع المصري دوماً يحمل السبق وإثارة الدهشة، فهذا الجمهور بدأ في نهاية عام 2013 وبدايات 2014 بأن يتخلى عن دور المشاهدة إلى المشاركة الفعلية، لا بإنقاذ الضحايا، بل أصبح يعتقل بنفسه المواطنين، وكل مَن وصم بأنه معاد للنظام، وقد يباشر بنفسه تطبيق بعض وسائل التعذيب المعتادة، غير عابئ بمطالب سابقة حلم بها طويلاً!

«ذاكرة القهر، دراسة حول منظومة التعذيب». من إصدارات دار التنوير للطباعة والنشر، القاهرة 2014. 352 صفحة.
* شهادات الضحايا كما وردت بالكتاب، وبعض العبارات مأخوذة في الأساس من تقرير «شعب ثائر تحت حُكم العسكر»، الصادر عن مركز النديم للعلاج والتأهيل النفسي لضحايا العنف والتعذيب، إضافة إلى بعض الصحف المصرية.

محمد عبد الرحيم

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *