رتيبة الحفني ومهرجان الموسيقى العربية
[wpcc-script type=”073aedcf2f378cb17909955a-text/javascript”]
في عام 1932 أسس محمود الحفني في القاهرة مهرجانا للموسيقى العربية، لكن سرعان ما توقف، مع أن دورته الأولى أحدثت حراكاً عجيباً حينها، وقدمت فيه الأصوات العظيمة ومنها أم كلثوم ومحمد القبنجي، الذي نال الجائزة الذهبية. ثم جاءت رتيبة الحفني في الثمانينيّات لتعيد إحياء المهرجان من جديد، بعد توليها رئاسة دار الأوبرا المصرية.
لن أدخل في التفاصيل التاريخية للمهرجان لأنها متاحة لمن يريد عبر شبكات البحث على الإنترنت، لكنني سأتحدث من باب رؤيتي الشخصية لدور المهرجان في تأسيس وترسيخ ذاكرة موسيقية لأجيال جديدة أغلبها لم تسع المناهج الدراسية إلى تأسيسها بشكل سليم موسيقيا، أو أن المجتمع الذي تربت داخله لم يسع أيضا بشكل حقيقي لترسيخ وبناء مقومات التراث الموسيقي العربي، أو حتى الغربي داخلها، وبالتالي تركها تواجه مستقبلها
كأنها مقطوعة من شجرة، بلا ماض وبلا تراث.
جاءت الراحلة رتيبة الحفني لتعيد مهرجان الموسيقى العربية إلى الواجهة، وجعلته بذكائها حالة متفردة بين مهرجانات مماثلة، فتحول المهرجان من مجرد برنامج ومواقيت لحفلات متنوعة إلى ملتقى موسيقي وعلمي يسعى كل موسيقي إلى الحضور من خلاله، إن لم يكن على خشبة المسرح فمتابعا وحسب.
على خشبة دار الأوبرا المصرية، ومن خلال مهرجان الموسيقى العربية، جئت من تونس عام 1998 لأحيي أولى حفلاتي في مصر، كانت الأم رتيبة الحفني تشعر بأنها تغامر بآلة عود منفردة على المسرح، وامتلأت القاعة بجمهور ذواق من مختلف الجنسيات، وطلبت الحفني أن يتكرر الحفل، فقد كانت مندهشة من الإقبال الجماهيري، وشعرت أنا من خلال نظرة عينيها، بأنها كانت في هذه اللحظة تشعر بأنها انتصرت. من خلال هذا المهرجان وعلى مدار دوراته كنت أحرص دائما على أن أكون موجودا في مصر حتى عندما كنت لا أشارك على خشبته، كان التفاعل بين الموسيقيين الذين يأتون من مختلف أنحاء العالم العربي وفي جعبتهم تجارب مختلفة حقلا كبيرا استكشافيا بالنسبة لفنان مثلي يحب التجريب. من على خشبات مسرح المهرجان عقدت صداقات، واكتشفت أصواتا جميلة، وعدت إلى زمن الموسيقى الجميل، ذلك الزمان الذي كنّا نستمع إلى آهات الجمهور أكثر مما نستمع إلى تصفيقه. هناك، كنت مرة مشاركا، أخرى عضواً في هيئة المهرجان التحضيرية ولسنوات، ومرة جمهورا مستمعا مستكشفا، وكانت رتيبة الحفني تتجول في قاعة المسرح بخطوات قلقة، وهي تحاول أن تتأكد أن كل شيء يمشي وفق التخطيط. لم تكن الحفني تقليدية وهي تستحضر التراث الموسيقي العربي على المسرح، كانت تحاول دائما استكشاف مناطق جديدة وأصوات جديدة وموسيقيين جدد، ومع هذا رسخت عبر سنوات المهرجان مشاركين يكادون يكونون دائمي الحضور، وأذكر من بينهم الكبار وديع الصافي، صباح فخري، هاني شاكر، كاظم الساهر والمطرب صفوان بهلوان، حينما كان يغني أغاني عبد الوهاب يستحضره على المسرح، لدرجة أنني إذا أغمضت عيني لا أسمع إلا صوت الموسيقار الكبير عبد الوهاب. عبر سنوات طويلة، وجدت في أصوات كثيرة ما كنت لأستمع إلى أغانيها بسبب عدم إحساسي بقوتها، خصوصا مع الأغاني السائدة السريعة، التي يكون صوت الإيقاع أكثر من مساحة الأصوات نفسها، هناك اكتشفت، وعلى خشبة مهرجان الموسيقى العربية، أنهم كانوا يبدون مختلفين، أصواتهم عذبة وحضورهم لافت. سنوات كثيرة مرت، وأصوات كثيرة أيضا، أغلبها أسس لنفسه مكانة في الأغنية، فمن هناك جاءت مي فاروق وريهام عبد الحكيم وأجفان وغيرهن الكثيرات والكثيرين. تجربة مهرجان الموسيقى العربية أصبحت مع مرور الوقت تجربة راسخة وأسست جمهورا خاصا، ليس ذواقا فحسب، بل أيضا جمهورا ينتظر من سنة إلى أخرى تبدل التقويم وحلول شهر المهرجان، كان يأتي إلى موعده مع المهرجان كما يأتي حبيب للقاء حبيبته، متلهفا في كل مرة يريد أن يعرف أكثر، وصار المهرجان تقليدا لفرح منتظر، عرسا حقيقيا للموسيقى وتراثها، يجمع بين الماضي والحاضر، ويبني للمستقبل، كأنما جاء ليحاول أن يأخذ دورا في التأسيس التربوي للذائقة، وإن كان الإقبال في البدايات يمكن أن يتخذ صفة الأكبر سنا، أقصد ندرة حضور الجيل الجديد، فإنه في سنواته التي مرت أصبح له جمهوره بين الأجيال الجديدة. هكذا اختلط صوت صباح فخري مع كاظم الساهر وهاني شاكر ومدحت صالح ومطرب المقام العراقي حسين الأعظمي والعظيمة التي أثارت فيّ الكثير من الشجن عندما وقفت تغني في تكريمها، سعاد محمد، ولن أعدد كل من مروا فقد كانوا كلهم قامات كبيرة سجلوا حضورهم في مهرجان لافت جنبا إلى جنب مع جيل جديد من مطربات ومطربين، وكذلك عمَّق مكانة المهرجان المؤتمر البحثي الذي يرافق كل دوراته بمشاركة نخبة من كبار الباحثين والمختصين في علم الموسيقى. عندما رحلت رتيبة الحفني عن الدنيا، كان وداعها صعبا، بالنسبة لي كانت أمي التي رحلت مبكرا، كنت أشعر بعينيها تبرقان عندما أجلس معها، وهي تعد للدورة الجديدة من المهرجان، كانت امرأة تحتضن تاريخا موسيقيا عريقا بقوة، تحنو عليه كأم، وكلما نام كانت تداعب أذنه برقة ليصحو.
باختصار كانت نهرا يجري بعذب الماء بلا توقف. بعد رحيل الأم الحفني، لم يُترك المهرجان يتيما، جاءت الفنانة إيناس عبد الدايم لتستمر في رسالة موسيقية بالغة الأهمية، وأسلمت قيادة المهرجان للفنانة جيهان مرسي بإشراف منها، كانت وكأنها تعلن أن النهر المعطاء فياض، وان سده المنيع هنا في دار الأوبرا المصرية وعبر خشباتها. من سنة إلى أخرى، ليست مجرد دورات جديدة تُضاف رقما، بل كانت تأسيسا كبيرا لذائقة ستستمر في التوالد.
موسيقي عراقي
نصير شمه