صورة أخيرة لصوتكِ

تحت سماء تدثّر جثة الصباح بمعطفها الرمادي كانَ صوتكِ بكلِّ ما فيه من أنهار بعيدة وتلال مهووسة وشوارع مشمسة وبنايات عالية، يتدحرج في منحدراتِ روحي ويحفر في جدران دمي ندم التأجيل، التأجيلُ أكثر حكمة من ابتسامةِ غيمة رأيتها في المنفى تنشر ظلال أولادها فوق الجبال وتنحني لقراءةِ أنباء الطين.

صورة أخيرة لصوتكِ

[wpcc-script type=”add4607f114ee1b1770f4ae4-text/javascript”]

تحت سماء تدثّر جثة الصباح بمعطفها الرمادي كانَ صوتكِ بكلِّ ما فيه من أنهار بعيدة وتلال مهووسة وشوارع مشمسة وبنايات عالية، يتدحرج في منحدراتِ روحي ويحفر في جدران دمي ندم التأجيل، التأجيلُ أكثر حكمة من ابتسامةِ غيمة رأيتها في المنفى تنشر ظلال أولادها فوق الجبال وتنحني لقراءةِ أنباء الطين.
بعيداً عن حرية المطر في معانقةِ الفوضى، قريباً من فواتيرِ الوقت الهارب من ذكرياته، ثمة متّسعٌ لزرع الفتنة في الروح، لكلمات تنام على جانبها الأيسر، وهي تفتح عينيها على براعمكِ الظامئة، متّسعٌ لرعشةِ الماء ولوعة التراب وبينهما شاهد ميت متلذذُ بعبق طبيعتكِ، ثمة متّسعٌ في هذا المكان لشيءٍ آخر لا أدركه الآن، شيء يجمع لحظات القتل من غبار أليم ويؤثث الحياة المجبولة بالافتراض.
كانَ صوتكِ بكلِّ ما فيه من محاربين ومتعبين وباحثين عن الله، ينفض يديه من خناجر الحاضر ولوعة الأجراس ويُدخل الموسيقى الشرسة واللذة الساخنة في منعطفٍ صغير، كان أمواتكِ فرحين عندما ازدحموا على ضفة النداء (لو نودي عليهم بصوتي لتفسخت مسامعهم) لأجل ذلك كانَ عليَّ أن أخرج قليلاً إلى شرقِ الشرود وأعود من ممرِّ الكلام، لألتقط صورة أخيرة لصوتكِ وهو يعبر حقول الكلمات.
أصغي لصوتكِ وأنا أشيد بيوت الأمل في حياة الآخرين، وأنا أصلح قرميد حياتي لتكون في مأمنٍ من البرد وتتعايش متآخية مع وحدتها، وأنا أمشي وحيداً في شارعٍ شاغر غير عابئ بشمس عبرت، ولأني رأيت شمساً تنصرف عنكِ وتشرب قهوتها مع الغيوم، تركت صوتكِ يرنُّ في هواءٍ طلق لكي تحمله العصافير في كل الجهات وتعود إليّ بلذةِ ضحكاتك العاليات.
كانَ صوتكِ يدفع الحياة باتجاهي ويلملم ما تناثر من ذكريات (حمد) فوق رخام الذاكرة (يا ريل صيح ابقهر، حدر السنابل كطا) أقِف على أُذن واحدة مع أغنية تروي وحشة ظلالنا الباردة في شجون ذكرياتنا، أغلق عيني على المسافات لتستدل جثتي إلى الطريق من دوني، أنا المُهجَّرُ أفرُّ من ساعة القيامة ولعنة المقابر إلى سياط صوتكِ المُلتهبة كي تمنحني حكمة النزول في الوديان وأنصت لخرير الغرائز والنظرات، كي أبرّر أخطائي الواطئة تحت مداخنكِ العالية وأصحّح وجهة الهواء في الشارع المترَب والسطر الطويل الكلمات.
كان صوتكِ بكل ما فيه من شموعٍ ونجومٍ وغيوم وأقواس قزح وأسراب طيور مهاجرة، بكلِّ ما فيه من مراكب فرح وظلال مدن وأدغال ذكريات لا تيأس من كائناتها، بكلِّ ما فيه من قنابل وشاحنات جنود وطائرات صاعقة وسواتر حرب وجبال شاهقة تتلذّذ بالمطر ليحاور وحدتها ويتفهم حاجتها لوصال البروق، بكلِّ ما فيه من بساتين للجلوس وينابيع للتأمل وحقول موسيقى وعصافير تشعر بأن سبباً خطيراً يحمل البراعم على إغوائها للتحليق في لحظةِ فرحٍ غائب، كان صوتكِ بكلِّ ما فيه من ألم الوقت وشوك الكآبة وخناجر الوحدة يعبرني ارتجالا ويجرني خلفه في استقصاء حكمة اللهب ويروض شهوة الاحتراق في دمي.
أحمل صوتكِ الكثير أينما ذهبت، الإيقاع ذاته والحركات ذاتها في الكثافة، في الشرق يحتاج المشهد أن أقترب أكثر وأروي حكاياتكِ عن بلادٍ في مكانها، وإن بالغت في تذوقها الوحوش. في الغرب أقضي الوقت في قلب الغابة، حيث يحلو لي مغازلة طقوسكِ كصوفي ماهر، أضمن خلوتي واتسلق أشجاركِ بصبر نافذ. في الجنوب أُجهد نفسي كثيراً كي لا تخرج كلماتي مذعورة كقطعان ضائعة في الصحارى. في الشمال أعود إلى حسن في الأغنية، الحاء المدسوسة في الحكايات، السين المثلومة في المساء والنون المحددة جداً، أعود لي وأنا خارج النص، بقية وجه وألف أغنية انتظار.

٭ سوريا

صورة أخيرة لصوتكِ

حسن شاحوت

Source: alghad.com

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *