ضمن برنامج أفلام الموسيقى والمجتمعات في المركز الفرنسي في القاهرة: «سبع ليالي وصبحية» و«الغريب المجنون»… التوثيق لموسيقى فدائيي بورسعيد وغجر رومانيا
[wpcc-script type=”6ad64e2db14c3f7829d34a04-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: أقيم في المركز الثقافي الفرنسي في القاهرة برنامج عروض أفلام تحت عنوان «الموسيقى والمجتمعات» يتناول موسيقى مجتمعات مختلفة، من خلال أفلام وثائقية وروائية تتوسل التوثيق لهذه المجتمعات، التي تكاد تسقط من الذاكرة، والتي كان لوضعها الاجتماعي والسياسي داخل دولة من الدول أن تعبّر عن ذاتها وهويتها، أو تاريخها من خلال الموسيقى. وهذه الأفلام هي … «جومبيه/الشباب الصاخبين» 1967 فرنسي وثائقي من إخراج جان روش، «سبع ليالي وصبحية» 1998 مصري وثائقي من إخراج عرب لطفي، ثم الفيلم الروائي «الغريب المجنون» 1997، روماني فرنسي من إخراج توني جاتليف. وسنتناول الفيلمين الأخيرين لاختلافهما الشكلي، ما بين الروائي والوثائقي، إضافة إلى الاختلاف بين العالمين الموسيقيين.. مدينة مصرية وقرية للغجر في رومانيا.
«سبع ليالي وصبحية»
«يا بور سعيد شباب ورجال … الفخر لينا مدى الأجيال… حاربنا جيش الاحتلال… سبع ليالي وصبحية/سدوا القنال ولا عادش مرور، قطعوا المياه وكمان النور، والعيشة صبحت ظلم وزور، سبع ليالي وصبحية/بالليل سمعنا عربية، ماشية تذيع روسيا جاية، أتاريها خدعة انجليزية، مع العصابة اليهودية/حيوا معايا البطل مهران، له في التاريخ قصة ونضال، قدم عيونوا فدى الأوطان، وتعيش بلدنا في حرية/عسران يا اسم باقي هيعيش، حط القنبلة في رغيف العيش، وخلى وليم مات فطيس، وولعوا به العربية …».
من هذه الأغنية الشهيرة تستمد عرب لطفي عنوان فيلمها، الذي من خلاله تحاول اكتشاف الشكل الموسيقي لهذه المدينة، ومكونات هذه الموسيقى، وهنا تبتعد لطفي عن موسيقى المركز، وأصحابها من المشاهير، وتبحث عن موسيقى الهامش وأصحابها وذكرياتهم، نظراً لتكوين مدينة بور سعيد، ودورها في مقاومة الاحتلال الإنكليزي. الأمر يتشكل من خلال الاختلافات بين سُكان المدينة والوافدين إليها، سواء من جنوب مصر أو قراها المترامية، فنشأ شكل موسيقي غير مألوف، وارتبط هذا الشكل بالمنحى الوطني، الذي ساعد موقع المدينة في تأصيله أكثر. ما بين حكايات الشخصيات، والفرق الموسيقية، وغناء بعض المقاطع من أغنياتهم الشهيرة، إضافة إلى شهادات الفدائيين، مثل «عسران» الذي تم ذكر اسمه في الأغنية. تكوين المدينة نفسه ما بين أجانب ومصريين كانت بعض المناطق مُحرّمة عليهم دخولها، فكانت مجالسهم وأغنياتهم الوطنية في الغالب، والعاطفية في بعض الأحيان. حاولت لطفي أن تربط بين ذاكرة المدينة من خلال الموسيقى وأصحابها، فهم الآن في سن كبيرة، ومعهم العديد من الشباب، الذين يعزفون ويرقصون، ويتوارثون هذا الشكل التراثي من الغناء. وهو ما يعرف بـ»أغاني الضمة» ــ جلسات السمر التي ينضم فيها الأصحاب والرفاق أمام بيت أحدهم للغناء ــ ويتم العزف على آلة «السمسمية» كآلة أساسية. الغناء والحكايات هنا للتأريخ، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تبدو مهن هؤلاء المختلفة… مهن بسيطة، فئة تعمل وتغني وتجتمع للرقص وإحياء الحفلات. الأمر الآخر.. أن مدينة مثل بور سعيد شهدت تقلبات عنيفة اجتماعياً وسياسياً، حرب 1956 وعمليات التهجير والمقاومة، ثم ما أطلق عليه عصر الانفتاح في سبعينيات القرن الفائت، وما عانته هذه المدينة، وما تم من تغيير بنيتها، مقارنة مخيفة بين رجال من المقاومة، وآخرين نالوا الثراء والتقدير وسحقوا ذلك الجيل. حاولت المخرجة أن تظهر حياة هؤلاء، وكيف كانت أغنياتهم تؤلف من خلال الأحداث والتأريخ لها. حالة موسيقية وفنية خاصة، بعيدة عن أغنيات تمت صناعتها بالطلب من السلطة الحاكمة، لتذاع في إذاعتها الرسمية، حتى أن أغنيات بور سعيد امتدت وانتشرت خلال مصر كلها، فهي ليست بالموسيقى الغريبة على أذن المواطن المصري، على العكس من أشكال موسيقية أخرى، فمصر ليست بيئة واحدة، بل عدة ثقافات متفاعلة ومُنتجة للعديد من الأشكال الفنية.
«الغريب المجنون»
هنا يقابل فقراء بور سعيد «غجر رومانيا» خاصة من خلال عمل للمخرج الفرنسي الجزائري الأصل «توني جاتليف»، الذي تدور أفلامه حول الغجر وحيواتهم ــ المخرج غجري الأصل ــ كفيلم «الأمراء» 1983، عن غجر ضواحي باريس، «رحلة آمنة» 1993، الذي يوثق لموسيقى الغجر في العالم. ثم «الغريب المجنون» 1997، الذي يستعرض موسيقى غجر رومانيا. في الفيلم الأخير يبدو الوضع الاجتماعي والاقتصادي لهؤلاء الغجر من أهم العوامل التي تصوغ حياتهم وموسيقاهم، من الممكن الاستعانة بهم في إقامة حفلات المترفين، كإرث موسيقي ما، أو أحد أشكال الفلكلور أو الأنتيكات. هنا لعب جاتليف على الحكي والتوثيق من خلال الشكل الروائي. شاب فرنسي/ستيفان يبحث عن مغنية اسمها «نورا لوكا» كان والده يستمع إليها وقت احتضاره، وعلم أنها من إحدى قرى الغجر في رومانيا، ويلتقي ستيفان مع العجوز «أزيدور» الذي ينعى حظه وحظ ابنه الذي اقتيد للسجن، وقد تم تلفيق إحدى التهم له، الأمر المعروف عن وجهة النظر الأخرى، أو السُلطة لهؤلاء، بأنهم أساس الجرائم، وعليهم تحمل موبقات المجتمع الذي يسمح لهم بالعيش. يتعرف ستيفان على سابينا، التي تعرف بالكاد عدة كلمات فرنسية، وتبدأ رحلة البحث، ويبدأ البطل في توثيق صوتي لأغنيات الأماكن التي يذهب إليها، من خلال ذاكرة وأصوات العجائز. إضافة إلى طقوس ومعتقدات الغجر … فالرجل لا يقوم بتنظيف أو ترتيب البيت، وإلا صار مُخنثا. كما أن لطقس الموت شكلاً مختلفاً تماماً عما ندركه … هنا يصبح الغناء والرقص والبكاء في الوقت نفسه، الغناء والرقص ليس من البهجة بالطبع، ولكن لابد من الغناء والرقص عند قبر الراحل، ثم تبدو حالة الحكي أسرع من خلال خروج الشاب من السجن والانتقام من الذين ساقوه إليه، وقتله أحدهما، فما كان من أهل القرية من الرومانيين إلا إحراق قرية الغجر، وحرق الشاب حيا، بينما في الوقت نفسه يعزف الأب وبعض رفاقه أمام مجتمع أغنياء المدينة. فيقوم ستيفان بتحطيم وحرق ما سجّله من شرائط، ودفنها حسب الطقس الغجري، ليرقص فوق قبر هذا التراث.
هناك قضية أقليات واضطهاد ومحاولات تهجير، فالدولة لا تعترف بهم، وتحاول محوهم بطريقة أو بأخرى. الرجل هنا يتحدث عن حقائق، ويكتشف ويُعيد الاستماع إلى تراث موسيقي ــ مشهد صنع فونوغراف بدائي، وسماع العجوز لاسطوانة قديمة تخص والده ــ حالة التوثيق هذه تتأكد من خلال فريق التمثيل ــ في ما يخص الأداء ــ فالبطل والبطلة فقط هما المحترفان، بينما باقي الشخصيات يمثلون أو يؤدون دورهم في الحياة، وهم الذين تفوقوا في لحظات كثيرة على الأبطال المحترفين، خاصة العجوز «أزيدور». التوثيق هنا شمل مجتمعا بالكامل من خلال تصميم الملابس والاكسسوار وطقوس الزواج والموت، وعلاقة الرجل بالمرأة، وتربية الأطفال، مجتمع متكامل يُشكل جسداً واحداً.
فكل من الفيلمين يمثل عالمين مختلفين، تكمن الموسيقى في تفاصيلهما، وعلى علاقة أساسية بتكوين الشخصيات النفسي، أو رد فعلها الاجتماعي.
محمد عبد الرحيم