«طيف المدينة» و«وينن» … ما بين الرؤية السينمائية والتبرير المُصطنع
[wpcc-script type=”ad8d3eff5b834c7fe5a8133f-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: رغم مرور سنوات على ما يُشبه انتهاء الحرب اللبنانية، التي استمرت ما بين 1975 وحتى 1990. ومحاولات التداوي السياسي والاجتماعي من تداعيات هذه الحرب، إلا أن قضية المفقودين أصبحت علامة مقيمة تذكّر دوماً بما حدث وما قد يحدث.
وكما حدث مع القضية الفلسطينية من أعمال فنية تناولت حلم العودة، والمقارنة بين ما كان عليه الأمر وما هو كائن بالفعل، أصبحت السينما اللبنانية في تجاربها الجادة تبحث عن حلم آخر هو عودة المفقودين، أو على الأقل معرفة مصيرهم. وقد تم مؤخراً عرض فيلمين ناقشا هذه القضية في مركز الثقافة السينمائية في القاهرة. أولهما فيلم «طيف المدينة» للمخرج وكاتب السيناريو جان شمعون إنتاج عام 2000، وهو أول فيلم روائي له بعد عدة أفلام وثائقية مهمة، والثاني فيلم «وينن» إنتاج 2014، وهو تجربة متميزة قام بإخراجها 7 مخرجين شباب، وكتب السيناريو له وأشرف على إنتاجه جورج خباز. هنا نحاول تلمس شكل القضية وتداعياتها ومعالجتها الفنية ما بين شمعون والمخرجين الـ7.
«طيف المدينة»
عبر خبرة طويلة في الأفلام الوثائقية مثل… «تل الزعتر» 1976، «أنشودة الأحرار» 1978، «رهينة الانتظار» 1994، وأعمال مشتركة مع مي المصري.. «تحت الأنقاض» 1982، «زهرة القندول» 1985، «بيروت جيل الحرب» 1989، و»أحلام معلقة» 1992، يأتي فيلم جان شمعون الروائي الأول «طيف المدينة» ليعكس حالة الحرب على مصائر شخوصه، خاصة بطله رامي/مجدي مشموشي وعلى المدينة بأسرها، التي تحولت إلى أنقاض مثل أرواح أصحابها، فلا أحلام تحققت ولم يعد المستقبل سوى شخص يسير بعاهة العَرَج ستلازمه حتى موته، هنا يؤكد شمعون على التذكّر الدائم لما حدث، حتى لا يتكرر مرّة أخرى، وها هو البطل يسير يستند إلى عصاته في النهاية، ويحاول التحايل على حلمه بأن يصبح رساماً في تعليم الصغار الفن، ربما تكمن فيهم سِمة أمل. والمفارقة أن هذه الإصابة أو العاهة تأتيه من رفاقه لا من المعسكر الآخر، الذي أصبح مُصادفة معسكر للأعداء، بعدما كان الحي بأكمله أصدقاء، بفضل ميليشيات الحرب، وحوارهم الصاخب ليلاً من خلف المتاريس!
من الجنوب إلى بيروت
يبدأ الفيلم مع رامي وأسرته نزوحهم من جنوب لبنان إلى العاصمة بيروت، ليهجر رامي البالغ 12 عاما حلمه الطفولي بأن يصبح رساماً، ويبدأ والده الذي حوّلته الحرب إلى مثال للقسوة في البحث عن عمل للطفل، بمساعدة أحد الأصدقاء في الميناء، ونظراً لقسوة العمل وصعوبته يلتحق رامي بالعمل في مقهى تديره امرأة يتجمع فيه الجميع (سلوى/نوال كامل) تحب المغني (نبيل/سامي حواط) وبعد وصول الحرب الأهلية يتم قتل الرجل وتخريب المقهى، وتترك المرأة المكان تماماً وترحل، وهنا علاقة حُب انتهت بالموت. بينما يحب رامي جارته التي تماثله في السن (ياسمين)، التي ترحل مُضطرة مع أسرتها إلى بيروت الشرقية، خوفاً من الموت، وهنا تنتهي الحكاية بالفراق، وإن ظل رامي يتذكرها وينتظرها طوال حياته. رامي ينأى بنفسه عن التحيز لأي من المعسكرين المُتحاربين، بل يعمل سائق عربة إسعاف له الحق في التجوّل بين الحدود الوهمية، التي أصبحت تفصل بيتاً عن آخر، حتى يتم اختطاف والده، فيتحول إلى أحد جنود الميليشيات كرد فعل، عمليات اختطاف للمقايضة بالرهائن، على أمل العثور على والده، هنا يظهر دور قائد الميليشيا صديق الوالد القديم، رجل الميناء والقائد الآن! الفعل والتدبير كما هما، هناك مَن يُحقق المكاسب القصوى، من دون عرائس الماريونيت من المقاتلين والموهومين بأحقية قضية ما.
الأب والزوج والحبيبة
لم يزل رامي يبحث عن والده، من دون أن يفقد الأمل، ويلتقي بامرأة وحيدة مع طفلتها، تبحث عن زوجها المفقود، وتقود مظاهرة للنساء (سهام/كريستين شويري) يحاول أن يأوي إليها كتعويض عن دفء الأسرة وان يكون له أطفال، من دون نسيان حبيبته الطفلة، أو الأمل في العثور على والده المفقود، حالة فقد يعانيها الجميع، تتكشف فداحتها حينما يعرف رامي أن اختطاف أشخاص من الجهة المقابلة يتم لمقايضتهم بالمال، من دون الدفاع عن قضية ما أو هدف وهمي مُعلن، هنا يقوم بتهريب أحد الرهائن إلى المعسكر الآخر، وينجح في ذلك ويُصاب من رفاقه الذين لم يتورعوا بأن يطلقوا النيران عليه، بتهمة الخيانة!
الحِس الوثائقي
طوال الأحداث يتم استعراض لقطات للمباني المُتهدمة، وأثر الرصاص في كل مكان، لقطات بالأبيض والأسود لهذه المدينة الرمادية، التي أصبحت تتآلف مع اللقطات خافية الإضاءة في أقبية البيوت المهجورة، التي صارت مأوى المتناحرين، خاصة المقهى الذي كان يعمل به رامي وهو طفل، ليُمسِك بآلة العود الخربة التي راح صاحبها ضحية العنف. وبانتهاء الحرب تقوم عمليات التشييد والبناء من جديد ليسير رجل البيزنس على الدرب نفسه ــ كحال أغنياء الحروب ــ فهو رئيس العمال في الميناء، وهو قائد الميليشيا الذي يقايض بالأرواح في سبيل جمع النقود، وهو الآن أحد رجال الساسة والأعمال في سيارته الفارهة، يمر بها ناظراً للمباني الجديدة/وجه بيروت الجديد! بينما رامي يسير مستند إلى عصاته بعد الإصابة ليلمح عودة (ياسمين) بعد الحرب لتلتقط صورة لها أمام بيتها القديم، من دون أن تعرفه، فقط تشيرله ابنتها الطفلة، التي كانت أمها في مثل سنها حينما غادرت المكان. ليكتفي الرجل بتعليم الأطفال الرسم، وينتظر.
«وينن»
في تجربة لافته قامت جامعة (سيدة اللويزة) بإنتاج فيلم يقوم بإخراجه 7 من مُتخرجيها المتميزين، وبالاشتراك مع ممثلين محترفين، وهي تجربة مهمة وغير مسبوقة على مستوى إنتاج الأفلام في العالم العربي. كل فصل من الفصول قام به أحد المخرجين، وجاء باسم بطلة الحكاية وهو الاسم الحقيقي لكل ممثلة شاركت في العمل. مجموعة من النساء المختلفات عانين الفقد الابن/الأخ/ الزوج/الأب/المُعلم، كلهن يبحثن وينتظرن، يردن معرفة الحقيقة وقد ارتبكت حياتهن، ولم تستو حتى الآن. الفصل الأول بعنوان «كارول» بطولة كارول عبود وإخراج ناجي بشارة، والثاني «لطيفة» بطولة لطيفة ملتقي وإخراج جاد بيروتي، ثم «تقلا» بطولة تقلا شمعون وإخراج زينة مكي، «ديامان» قامت بالدور ديامان بو عبود وأخرجه طارق قزمان، «كارمن» أدّته كارمن لبّس وأخرجته كريستال إغنيادس، «ندى» بطولة ندى أبو فرحات وإخراج ماريا عبد الكريم، والفصل الأخير جاء بمشاركة جميع بطلات العمل وأخرجه سليم الهبر، وجاء بعنوان «ساحة الاعتصام».
«السبيل إلى ساحة الاعتصام»
كارول امرأة تبحث عن والدها المفقود، وترأس جمعية تهتم بشأن المفقودين، وتحضّر لفعالية تتكرر كل عام تتكون من أسر المفقودين، خاصة النساء، فمنهن مَن فقدت الأب والزوج والابن والأخ، تتوقف حياة كارول عند عملية البحث هذه، فلا علاقة تحياها مع صديقها المصوّر، ولا شكل للحياة من 20 عاما وقت فقد الأب. خلال ذلك تستعرض باقي الشخصيات مأساتها، لطيفة العجوز التي تنتظر عودة ابنها، وتصر على تحضير الطعام له كل وقت، لتأكل هي وزوجها العجوز وطعام الابن بينهما،/ لينهض الرجل في آلية وإيقاع صبره ليُلقي بالطعام في سلة القمامة، وهكذا وهي تنتظر وتحادث نفسها، حتى أنها تحادث العذراء المتمثلة في تمثال صغير، وتمسك لطيفة بتمثال ليسوع الطفل، قائلة «لن أردّ لكِ ابنك حتى تردين لي ابني يا مريم». لننتقل إلى تقلا المدرسة في إحدى المدارس، التي تعدّت الأربعين وتعاني فقد أخيها، ولا تستطيع التواصل في علاقة أو حتى بدايتها وقد أنستها رحلة البحث حياتها. على الجهة الأخرى نواجه ديامان الباحثة عن أبيها، التي تعاني حالة ضياع تام، فلا تعرف ماذا تريد وكيف، في مشكلات مزمنة مع أمها، حتى أنها تستغرب من فعلة أبيها! كيف يترك نفسه ليحدث ما حدث وهو لديه طفلة وزوجة، حالة ملازمة من الانهيار النفسي تتنفسه الشابة، لتتمثل حالة جيل جديد تائه، هل يواصل ويقطع صلته بالماضي، أم يظل هكذا؟ لتؤكد حالة كارمن الفاقدة لزوجها، التي تعيش مع شاب يصغرها، وتغيم رؤيتها لنفسها هل هي عاهرة بالفعل أم أنها ملّت الانتظار؟ وتأتي ندى الباحثة عن مُعلمها وأستاذها الجامعي المفقود، وهي متزوجة من أحد رجال الأحزاب، الذي يستغلها لحسابه حتى يبدو متعاطفا مع قضية المفقودين، خاصة أن زوجته تحضر الاعتصام وتخرج صورها في الجرائد!
اصطناع النهاية
الجميع الآن أمام البرلمان اللبناني، لنعرف أو نكتشف أن بطلات الفيلم يدرن في فلك البحث عن شخصية واحدة تمثل الابن والأب والزوج والمُعلم والأخ، بخلاف والد مؤسسة الجمعية كارول. من الجيد أن يتم التعبير هكذا للملمة هذه الشخصيات التي لم تكن العلاقات بينهم طوال الأحداث سوى حالة شخص مفقود، أما أن يصبح هذا الشخص واحد والجميع على علاقة به، فهو أمر متبع في هذا الشكل من السرد. لكن الأمر جاء في شكل اصطناعي، وما أثقل منه هو اللقطات المختلفة للنساء الحقيقيات العجائز، الباحثات عن ذويهم ــ هناك فارق شاسع بين التوثيق هنا ولو لحظياً، وبين المنهج التوثيقي في فيلم «طيف المدينة» ــ فالحالة هنا لإضفاء لمسة من المصداقية للعمل، خاصة أن البطلات لا يشبهن النساء الحقيقيات في شيء! لنا هنا أن نسأل عن الفئة الاجتماعية التي تناولها كاتب السيناريو، وحصر الأمر داخلها فقط، فهو لم ولن يعبّر عن الجميع، بل فئة رجل مثقف، أقسى ما تجسّد لدى زوجته من فقد هو بديل جنسي وجدته في شاب من فئة اجتماعية أدنى! التساؤل فني لا أخلاقي، وقد انحصرت المسألة في لحظات سُكر دائم تعيشها الابنة، ولحظات من الجنس المسروق تقوم بها الزوجة، وكبت جنسي تعانيه الأخت، التي تعدّت الأربعين من دون ان تُمَس! شارك في الفيلم كل من … أنطوان ملتقى، رودريك سليمان، ليليان نمري، إيلي متري، طلال الجردي، جوليان فرحات، وزياد صعيبي. كما حصل على العديد من الجوائز أهمها… أفضل فيلم في دبلن إيرلندا، أفضل سيناريو في مهرجان السينما العربية في مالمو بالسويد، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان الإسكندرية في مصر.
محمد عبد الرحيم