عصر أم كلثوم… القلب يعشق كل جميل
[wpcc-script type=”c09b502e7b1101ca3f12a4a9-text/javascript”]
«القلب يعشق كل جميل» والقلب يعشق هذا الصوت القادم من قلب الحب بل الذي يؤرخ هو نفسه بسماته وتفاصيله للحب كأجمل ما يكون. القلب يعشق صوتها يضيع في تفاصيل عُربه يتقلب مع تقلباته.
صوت آت من وسط الحياة ومن منطقة خصبة هي أرض يجتمع فيها الإنسان بتناقضاته، ففي صوت أم كلثوم مساحة واسعة للحب لاجتماع النقيضين الأنوثة والذكورة.. القسوة والحنان.. الجبروت والتضرع.. الألم والأمل.
في صوت أم كلثوم تولد معان مختلفة للأشياء تصبح مذاقات الكلمات نفسها روحا أخرى تتعانق النقائض لتصبح روحا واحدة، يكفي أن نستمع إلى صوتها لنعيش رقة المرأة بكل تجلياتها؛ وخشونة الذكورة أيضا، إذ امتلك هذا الصوت بدائع الحياة وامتلكت هذه الحنجرة نقائضها لتؤلف كلها قالبا واحدا لا يمكن أن يكون اسمه اسما آخر غير أم كلثوم. قيل الكثير عنها وعن صوتها وسال من الحبر ما يمكن أن يقع في مجلدات كبيرة لذا لم يعد هناك من كلام جديد أو ما يضاف ليقال في هذا الصوت الذي امتلك ناصية الغناء لعشرات السنين وأعطى مثالا حيا وقيمة لشكل الأغنية العربية.
لكن ما يمكن قوله إنه من المستحيل تكرار هذا المثال حتى لو اجتمع الجميع لإعادة بنائه. إذن ما الذي ميز هذه الحنجرة أولا لتصل إلى أرواح الناس.
ثانيا: لتستحوذ على قلب الصحافة العربية والإعلام العربي منذ ظهورها في ساحة الغناء مرورا برحيلها وليس انتهاء بأيامنا هذه.
إحدى ميزات حنجرة أم كلثوم هي عرض النغمة الواحدة وأعني بذلك أنها حينما تؤدي أيا من درجات السلم الموسيقي فأنها تقولها بذبذبات متكاملة كفيلة بأن تملأ الأذن في حد ذاتها، وكطبيعة بشرية (فسيولوجية) فإن تغييرات تطرأ على الحنجرة منذ سن الطفولة والمراهقة أي فترة سن البلوغ وبعد ذلك منتصف العمر ومن ثم دخول مرحلة ما بعد الخمسين عاما حيث يتغير الصوت عبر هذه المراحل بمعدل أربع إلى خمس سنوات في حالة التمرين المتواصل وهناك تغيرات أسرع تطرأ على الحنجرة في حالة غياب التمرين المتواصل.
أم كلثوم صاحبة الشخصية الخاصة والمستقلة بل صاحبة البصمة التي لا تنسى لم تشأ أن تقبل بهذه الفرضية التي يمليها الزمن على الجميع واختارت لنفسها منهاجا في التدريب شبه سري كي تحافظ على النقاء والوضوح وسلامة النطق والحساسية في الأداء وخلطت هذه المكونات بالموهبة والخبرة ولحظات الألق لتعانق فيها آذان مستمعيها في كل مكان.
المفصل المهم في حياة أم كلثوم وفي تكوينها الصوتي ـ كما هو معروف ـ انبثق من الفائدة الكبيرة التي تشربت بها عبر شيوخ التجويد في القرآن الكريم وأساطين الطرب الذين استخدموا في بدايات القرن تكنيكا واحدا هو تفخيم الصوت عبر تجاويف الجمجمة وهناك تقسيمات لخروج الصوت من الجسد وهناك ما يخرج من منطقة الحجاب الحاجز وهذا ما يستخدم في الغناء الأوبرالي وأيضا يستخدمه الرضيع في الإعلان عن احتياجاته بصرخة مدوية لا يمكن أن تصدر عن الحنجرة بل من منطقة الحجاب الحاجز التي تشبه صندوقا صوتيا.
أما الطريقة الثانية أو الأسلوب فهو الغناء الذي يخرج عبر الحنجرة وهذا ما يحتاج إلى مكبر صوتي لأنه يعتمد على منطقة ضعيفة وعرضة سهلة للأمراض، وبهذا تتعدد الأشكال لخروج الصوت.
بحكمة الأسطوات الكبار في تجويد القرآن والغناء وبعذوبة بنت القرية وحساسيتها التلقائية وبموهبة المبدعة خرجت لنا أم كلثوم من دون أن ترضى بما توفر لها بل كانت تنظر دوما لما سيأتي، كأنها تلوي الأيام والسنين وتصارعها كي تحتفظ بموقع لم ولن يصل إليه أحد في حاضر المستمع العربي في كل مكان.
وبما أن الزمن يفرض ولا يسأل، فكان التغيير منطقيا وساريا على كل البشر وتمثل الخلاص وعدم القبول بالهزيمة أمام الزمن عند أم كلثوم بتغيير الجمل اللحنية التي كانت تشكل عبئا كبيرا على الملحنين ومصدر شكوى دائما مما حدا ببعض الملحنين إلى وقف التعامل مع أم كلثوم وكانت تفعل هذا لأنها الوحيدة التي كانت تعلم أن الصوت الذي غنى (ابتسام الدهر) سنة 1936 هو غير الصوت الذي غنى (أراك عصي الدمع) سنة 1958 وغير الصوت الذي غنى (أمل حياتي) سنة 1965 وغير الصوت الذي غنى (ليلة حب) سنة 1972 وبالتأكيد فان كل هذه الفترات كانت مختلفة عن سنة 1926 عندما غنت أم كلثوم (وحقك أنت المنى والطلب).
كل فترة زمنية حملت لأم كلثوم مساحة خاصة تتحرك فيها درجاتها الصوتية ففي بداياتها امتلكت أم كلثوم بكر الحنجرة البراقة النافذة للروح والمقلدة بشكل حرفي تردادي يشبه أصوات معلميها من المشايخ لكن بصوت فتاة.
وهذا يشكل صعوبة كبيرة جدا لأن العمل الغنائي حين يكتب لرجل يكتب بغير الدرجات الصوتية التي تكتب للمرأة، لكن هذا غير موجود في عالم الأغنية العربية، فكان الملحن يبدع اللحن وعلى الصوت رجالي أم نسائي إيجاد الوسيلة لغناء هذا العمل عدا بعض التجارب التي على رأسها أم كلثوم والتي شكلت من اسمها ثقلا قادرا على الاختيار وطلب التغيير من الملحنين.
وبالتالي لم تكتف أم كلثوم بالمساحة الصوتية التي منحها الله لها ولم تكتف بأن يرافقها ويبدع لها ومن أجلها أعظم الشعراء والملحنين والموسيقيين ولم تعترف بالتغيرات التي طرأت بحكم السنين على حنجرتها، بل خلقت من هذه التغيرات أشكالا أدائية جديدة جعلت من أسلوبها مدرسة حقيقية للغناء والاستفادة من كل مراحل الصوت، من الحاد الذي يقع في منطقة السوبرانو إلى الأصوات التينور الوسطى والأصوات الغليظة في الباص.
ان أم كلثوم امتلكت مشروعا متكاملا كانت فروعه الصوت العظيم والألحان التي لم تكتب لغيرها والقصائد التي لم تترك مفردة في الحب والوطن والقوة والرومانسية والضعف الإنساني إلا وتغنت بها، لكن حلم اليقظة المتواصل في خلق هوية أمة وثقافة شعب عبر الأغنية وخلق قيمة عالية للمغنى في المجتمع أصبحت بذلك مرجعا لا في بال العشاق وقاموس العشاق الكبير الذي تغنت به، بل أيضا عند دارسي الغناء الشرقي ومتعلمي المقامات والسلالم العربية الشائعة وغير الشائعة، وكذلك بحر من الإيقاعات التي تنوعت عليها ألحانها.
لقد نالت أم كلثوم القدر الذي سعت من أجله بحدوده القصوى ودافعت عن وجودها بكل السبل لأنها آمنت برسالتها الخاصة ـ فعندما كانت تطلب تغيير جملة لحنية من ملحن عبقري كرياض السنباطي أو الشيخ زكريا أو القصبجي لم يكن الداعي بالضرورة أن الجملة لم تعجبها، بل لأنها الوحيدة التي كانت تدرك ماذا يمكن أن تغني وفى أي منطقة صوتية من دون أن تظهر علامات إرهاق على حنجرتها التي نعتقد أنها أثمن ما امتلك العرب في علم الجمال.
ولا يمكن أن تقول أم كلثوم إن هذه الجملة اللحنية أو تلك يصعب غناؤها بحكم تغيرات الصوت، بل كانت تقترح تغييرها فورا عبر استفزاز الملحن العبقري ليبتكر جملة لحنية أجمل من الأولى وكان الزمن متاحا لنضوج الأغنية منذ سماعها لأول مرة والموافقة عليها وتلقينها لها من قبل الملحن ثم البروفات مع الفرقة الموسيقية كانت الأغنية تأخذ الوقت الكافي لتثبيت مفردات نجاحها وانسجامها ومقدمتها الموسيقية التي كانت أم كلثوم تلتقط خلالها أنفاسها ويهدأ اضطراب قلبها من خشية خشبة المسرح والجمهور وهذا الخوف الذي يزداد كلما ازدادت قيمة المرء لدى الجمهور وتراجع جمال مفردات النص الشعري داخل الأغنية مرات طويلة وعديدة ودراسة الانتقالات الإيقاعية والنغمية من جملة موسيقية لأخرى ثم إظهار مخارج الحروف ليكون اللحن قد تمت إجادته على كل المستويات، وفي هذه المراحل كانت الأغنية تمر بتغييرات أحيانا جوهرية وأخرى بسيطة ولكن في كل الأحيان كانت متقنة.
إن الذي نعيه اليوم أن كل عمل غنائي قدمته أم كلثوم كان إضافة لرصيد الإنسانية في جماليات حياتنا التي لأم كلثوم وجيلها ومن عاصرها صغيرا أم كبيرا، فضلا عظيما في وصول هذه الجماليات إلى أقصى حدودها وهذا ما يفسر الانحدار الذي جاء بعد رحيل هذا الجيل.
إن قدرة المغني على إضافة ما نسميه موسيقيا العُرَب أي جماليات الأداء المضافة على اللحن الأصلي والتمكن من معاني النص والإيمان بها والقدرة على تمثلها بحيث يصبح الطريق إلى قلب المستمع نافذا.
كانت سمة واضحة من ملامح مرحلة أم كلثوم إذا ما أضفنا لها الارتجالات وهذا جانب أود خوضه لاحقا في مقالة أخرى.
الدقة والكمال في كل جزئية حتى الأغاني التي سجلت في ظروف الحرب فلم تكن إلا استنفارا لعبقريات مبدعيها الذين آمنوا بحدس أم كلثوم واستشعارها عن بعد بنجاح هذا العمل وليس ذاك.
ولذلك عاشت وتعيش هذه الأعمال وهذه المرحلة كل هذه العقود من الزمن، لأنها وقفت على وعي عميق وأحيانا فطري مقرون بأحلام يقظة لرؤيا مستقبلية لشكل الأغنية.
لقد قادت أم كلثوم فريقا من الملحنين وانتشلتهم من أجواء لم تكن تصل بهم إلى ما وصلوا إليه بالرغم من إبداعهم وكان صمام أمانها الشاعر أحمد رامي الذي شكل معها ثنائيا قل نظيره في العالم حبا وشغفا وتعليما وعطاء منقطع النظير.
حين ظهرت أم كلثوم ظهر معها شغفها الشديد بالأدوات التي يحتاجها المبدعون الخلاقون والقادرون على التغيير، فكان لا بد من مرجعية ثقافية عميقة تقف عليها، وكان المعلم فيها ومن فرش لها تربة ثقافية خصبة هو أحمد رامي استطاعت أن تقف عليها طوال السنين التي عاشتها والتقطت من خلالها أجمل النصوص الشعرية ووضعت يدها بيد عباقرة التلحين من دون اعتبارات العمر والاسم، كان اعتبارها الوحيد هو حجم الموهبة والإضافة التي يمكن للشاعر أو الملحن أن يضيفها لرصيد أم كلثوم وكانت تبذل وقتا غير قصير للتأكد من قوة حدسها تجاه أي مبدع جديد.
والمعروف أن المواهب الكبيرة عادة تخلق ومعها القابلية والاستعداد لأن تصبح شخصية لها مقومات الحضور أي (الكاريزما) ولا يمكن أن يملك المرء كاريزما من دون شخصية ممتلئة ثقافيا وإبداعيا في أي مجال وهذا ما عرفته أم كلثوم مبكرا فلقد استطاعت أن تنتشل عصرا خطيرا من الغناء وتصعد به إلى مرتبة سامية، عصرا كانت تشتهر فيه أغان مثل (أنا حاسة ولسه ما أعرفش الكخة من الكحة) و(ويا عينك يا جبايرك آه يا ناري من عمايلك يا راجل أنت بوريه) وأغان كثيرة على هذا المنوال كانت سائدة وبقوة عبر أفضل أصوات تلك الفترة الزمنية مثل سلطانة الطرب منيرة المهدية وغيرها.
بتحفظ بنت القرية وبالتربية الدينية التي نشأت عليها وبوصاية الأب، لم يكن أمام أم كلثوم إلا الاتجاه للطريق الأصعب والذى كان الوحيد أمامها وهو التجديد والأغنية التي تقف على أخلاقيات وعلى قيم المجتمع الذي تشربت منه أم كلثوم وكبرت على أخلاقه.
وأم كلثوم من أوائل المغنين العرب الذين لم يتركوا ثغرة من دون أن يفكروا فيها ويجدوا لها أفضل الحلول مثلا، هندسة الصوت كانت تعني الكثير لأم كلثوم لأنها كانت تعي تماما أن التسجيل هو المستقبل؛ هو الامتداد؛ فاستعانت بالأفضل فنيا ليرافقها في رحلة طويلة، وله فضل كبير في جودة ما نسمع لغاية يومنا هذا.
أما الشكل الذي رسمته عبر أزيائها للمرأة الوقورة فقد كان له تأثير بارز في رسم شخصيتها ووسمها بصفات خاصة.
يبدو مما ذكرت أن أم كلثوم لا نقول توفرت لها، بل وفرت لحياتها كل مستلزمات البقاء طويلا والتغيير والإضافة، وكان لها ما أرادت في أن تغير وجدان المجتمع بأكمله وبكل فئاته، ولم يتفق المجتمع العربى على شخصية مثلما أتفق على شخصية أم كلثوم، وهذا قليل مما نقف عليه اليوم من مميزات رافقت العبقرية الفذة منها ما هو رباني ومنها ما هو اجتهاد ومنها ما هو علم صقلتها شخصية واحدة رسمت للعصر أشكالا ومعاني للحب وثقافة من حب الله إلى الإنسان ثم الوطن، عبقرية وسمت عصرا كاملا باسمها.
موسيقي عراقي
نصير شمه