«عصفور الشرق»… الخيال والتوثيق ومحاولة البحث عن معنى
[wpcc-script type=”d6983ecd874d7ae287df68c9-text/javascript”]
القاهرة ـ «القدس العربي»: «وجيت باريس بعد 50 سنة، وجدت أنها اتغيّرت تماماً، مبانيها، شوارعها. سألت نفسي: إيه اللي حصل؟ وإيه اللي هيحصل لو عشت فيها مرّة ثانية شاب؟!» هكذا يأتي صوت «توفيق الحكيم» ليُصاحب وصول الممثل نور الشريف الذي سيقوم بدوره. ربما تصبح هذه العبارات مدخلا مناسبا للفيلم، الذي يظل دوماً في حالة من المقارنة بين ما كان وما هو كائن. كإعادة لفهم تاريخ الرجل، والوقائع التي عاشها، من دون الاكتفاء بعرضها.
الأمر يقترب من محاولة تفسيرها على مستوى الوعي الشخصي للكاتب وتجربته الجمالية، إضافة إلى ما أحاطها من مناخ سياسي واجتماعي، عبر اللجوء إلى سرد جزء كبير من حكاية الحكيم «يوميات نائب في الأرياف» الصادرة عام 1937، بخلاف «عصفور من الشرق»، المكتوبة عام 1938، والتي تبدأ بها حكاية الفيلم. الفيلم سيناريو وإخراج: يوسف فرنسيس. تمثيل: نور الشريف، سعاد حسني، إليزابيث جارد، آميدو، محمد خيري، محمد وفيق، علي عزب، وتوفيق الحكيم. تصوير: كمال كريم. مونتاج: عبد العزيز فخري. صوت: مجدي كامل. موسيقى: عمار الشريعي ومختارات من الموسيقى الفرنسية. 91 دقيقة. إنتاج مصري عام 1986.
الشخصيات
يتم سرد الأحداث من خلال ثلاث شخصيات متباينة، المؤلف الحقيقي «توفيق الحكيم»، الممثل نور الشريف، والشخصية الروائية «عصفور». وبينما يسعى الممثل بكل طاقته إلى أن يتواصل مع شخصية توفيق الحكيم، وأن يحيا حياته في
العشرينيات، بل ويُعيد تجسيد قصة الحب التي عاشها الحكيم، ولا يستطيع نسيانها ــ يُضيف الحكيم في الفيلم العديد من التفاصيل لم تُذكر في الرواية ــ نجد أن المؤلف بدوره يسعى بجهد أكبر لمحاولة الوصول ومعرفة الشخصية الروائية «عصفور»، أكثر الشخصيات حضوراً وحكمة، مهما بدت وكأنها تقترب من الجنون. مع ملاحظة أن الحكيم نفسه يستعير الاسم «عصفور» ليُصدّر به عمله «عصفور من الشرق».
المقابلة الأخرى نجدها بين شخصيتي «إيفا» و»ريم»، ما بين شخصية حقيقية يتم استعادة تجسيدها، وأخرى خيالية تنتمي لفن الرواية. وعلى هذه الوتيرة ما بين الفعلي والخيالي، ومن وجهة نظر حالة من الممكن أن نطلق عليها التناسخ الفني لشخصية البطل ــ صور مختلفة للشخص نفسه، حتى أن الفيلم يصرّح بذلك عن طريق الممثل، الذي يعرف الحقيقية في النهاية، ويعترف بأنه وعصفور (شخص واحد) ــ من خلال هذا الأسلوب يتم سرد الحكاية بالكامل.
الزمن
وحسب وجهة النظر هذه في تناول الحكاية، يبدو الزمن كفضاء كبير، يجمع عدة أزمنة في الوقت نفسه: الحكيم وذكرياته التي لم يزل يعيشها، والممثل الذي يقوم بتجسيدها، إضافة إلى الزمن الفعلي لتوقيت شخصية الممثل ــ الثمانينيات ــ ثم العودة مرّة أخرى إلى الثلاثينيات، والتوقف بالزمن من خلال شخصية حكيم القرية، وهي أقرب إلى الشخصية الأسطورية، المتجاوزة لمنطق الزمن.
هكذا أراد لها الحكيم أن تكون في الرواية، وحاول قدر جهده أن يرى الأحداث من خلالها. ويحتكم الحكيم في ذلك إلى الحِس دون العقل، وهو ما تحقق في النهاية، حينما أصبحت الشخصيات الثلاث تمثل وتدل على شخصية واحدة، تبدو كامنة ومكتملة في وعي المؤلف. عصفور لم يزل حيّاً منذ أكثر من نصف قرن، وكما هو في الرواية في كامل الوعي. وهو الشخص الوحيد في المقابلة الذي وثقت به ريم، ونجح في إنقاذها من ظنون الجميع، وهي نفسها شخصية الحكيم التي تمناها حتى لا تتركه حبيبته الباريسية. فلا زمن يحده، ولا موت يمكن أن يطوله، وقد تحوّل إلى شخصية فنية. مع ملاحظة أن المؤلف كان في رحلة للعلاج من أزمات صحية.
الأسلوب السردي
أكثر من نصف قرن مرّ على الأحداث التي يُعاد استعراض تفاصيلها، باريس والريف المصري في منتصف العشرينيات من القرن الفائت، مقارنة بالزمن الفعلي لشخصية الممثل، وهو زمن الثمانينيات. وهنا يتم التداخل ما بين الخيالي والتوثيقي، من حيث الحدث وبالتالي المكان، ثم الشخصية الفعلية أو المُفترضة. في إطار من الزمن الفني (الجمالي)، أو الفضاء الزمني للحكاية بمعنى أدق، من خلال سيناريو مُحكم البناء إلى حدٍ كبير.
حاول السرد الفيلمي أن يجمع عدة أساليب سردية، ليؤصل حالة ما بين الروائي والتوثيقي. توثيق للحكيم وزيارته باريس للعلاج، وهنا تكون المشاهد أقرب إلى الحوارات شِبه الصحافية، واللقطات المؤرشفة، كالمستشفى والطبيب، سرد الحكيم للذكريات والآراء الخاصة بالمرأة والحب، ووجهة النظر الاقتصادية التي تعد من سماته الشخصية المعروفة. مما يخلق حالة دائمة من كسر الإيهام، وبالتالي عدم التورط الكامل من قِبل المُشاهِد في ما يراه.
هناك دائماً مسافة تبعد به عن حالة التماهي مع الحدث، ثم الأسلوب شِبه الوثائقي، الذي يتخيّل كيف تكون إعادة حكي قصة الحكيم أيام شبابه، التي يُجسدها الممثل، ويحاول الامتثال لها تماماً. وأخيراً الأسلوب الروائي (الخيالي) في تجسيد مشاهد من رواية «يوميات نائب في الأرياف»، التي قدمتها السينما المصرية من قبل في فيلم بالاسم نفسه، من إخراج توفيق صالح عام 1969. (استعرض توفيق صالح في الفيلم مدى الفساد السياسي، الذي لم يختلف منذ صدور الرواية وحتى عام إنتاج الفيلم، مما أدى بالرقابة الاشتراط بأن يُكتب في النهاية أن هذا الفساد كان في وقت العهد الملكي).
هذا الأسلوب في الوقت نفسه يبتعد عن الرواية ويحاول التأكيد على حالة البطل ونقيضه (الممثل/عصفور) الحالة الإنسانية التي جمعت بينهما، كوجهين لشخص واحد، ما بين الروح والعقل، وأي منهما سيصبح جديرا بثقة المرأة في النهاية، والتي فشل فيها كل من المؤلف والممثل، بخلاف مُدّعي فقدان العقل! فالمزج والتضافر بين هذه الأساليب جعل الفيلم تجربة لافتة في السينما المصرية من جهة، كما خلق شكلاً جمالياً وظف التوثيقي والخيالي في سبيل فكرة أو حالة فنية أراد تحقيقها، وقد وجد ضالته إلى حدٍ كبير.
محمد عبد الرحيم